وهكذا كان البارودي بمبادئه وأخلاقه وتدينه أقوى من كل الإغراءات التي حوله .. كانت السلطة الحاكمة في يده تحكمها خشية الله، وكان نفوذه يعمل تحت رقابة صارمة من الأخلاق الفاضلة، وكان يعلم أن المال الذي في يده هو مال الله، ومن هنا لا يجوز توظيفه إلا فيما يرضي الله، وكان معنى الشجاعة عنده أنها انتصار للحق والعدل والخير.
مدح الرسول
لقد كان طبيعيا- كما يقول الشاعر صلاح الدين السباعي- أن تتجلى شخصية البارودي بقيمها ومبادئها في قصيدته في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم وهي القصيدة التي سماها “كشف الغمة في مدح سيد الأمة” وهي تسمية تكشف عن مدى تأثير معايشته لسيرة الرسول من إشاعة الطمأنينة في نفسه، ففي منفاه لم يجد من يلوذ به إلا الرسول عليه الصلاة والسلام، فوقف في رحابه الصافية المشرقة يستمد منها سكينة النفس، ويستضيء بإشعاعها في دروب الوحشة التي تعذبه بعيدا عن وطنه.
وقدم البارودي لقصيدته بكلمات قال فيها: “هذه قصيدة ضمنتها سيرة النبي صلى الله عليه وسلم من مولده الكريم إلى يوم انتقاله إلى جوار ربه، وقد بنيتها على سيرة ابن هشام ورغبتي إلى الله أن تكون لي ذريعة أمت بها -أي أتوسل بها يوم المعاد، وسلماً إلى النجاة من هول المحشر، اللهم حقق رغبتي إليك واكسها بفضلك رونق القبول، آمين”.
ومن هذه المقدمة يتضح أن القصيدة تستند أساسا إلى سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وذلك يعني أن معظمها تاريخ منظوم ولكنه في الوقت نفسه يكشف عن مدى حب الشاعر للرسول عليه الصلاة والسلام، حيث لم يكتف بالمدح، بل أراد أن يواكب حياة الرسول الباهرة، وأن يمضي معها من البداية إلى النهاية يتنسم عطرها الإلهي ويهتدي بنورها في شباب الحياة ويستمد منها القوة في مواجهة عاديات الزمن، وهو لا يرجو من ذلك إلا أن تكون قصيدته وسيلته إلى النجاة يوم القيامة.
يبدأ البارودي قصيدته في مدح الرسول بقوله:
يا رائد البرق يمم دارة العلم
واحد الغمام إلى حي بذي سلم
ويختمها داعياً الله عز وجل بقوله:
وامنن على عبدك العاني بمغفرة
تمحو خطاياه في بدء ومختتم
وبين هاتين الأمنيتين أمنية أن تسقي الأمطار ديار محبوبته، وأمنية أن تنمحي خطاياه يتحرك الشاعر من خلال أربعمائة وخمسة وأربعين بيتاً في مجالات مختلفة تجمع بين النسيب وتقرير عدة حقائق تاريخية ووصف الغزوات واستعراض لأحداث متباينة، ومدح للرسول الكريم، وطرح همومه بين يديه وتوسلاته على بابه مستشفعاً به.
والقراءة الواعية لقصيدة البارودي تكشف عن حرصه على استقاء معانيه من القرآن الكريم وهدي رسول الله فمثلا قوله:
كل امرئ واجد ما قدمت يده
إذا استوى قائما من هوة الأدم
والخير والشر في الدنيا مكافأة
والنفس مسؤولة عن كل مجترم
يبرز منه بوضوح المعنى الذي ترشد إليه الآية القرآنية الكريمة: “فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره. ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره”.
البارودي ..
كم أحببتُ هذا الشاعر .. فهو بحق محيي القريض
بعدما اوشك أن يهلك .. وهو القائل:
أحييتُ أنفاس القريض بمنطقي ** وصرعت فرسان العجاج بلهذمي
وفي هذا السياق الذي نحن فيه من شعره الاسلامي
فقد قرأتُ الكثير من ابياته في الزهد
حتى أنه افرد ابياتا في هذا الباب
وكان يكتب قبل القصيدة (وقال في الزهد)
ومن اجمل أبياته في الزهد هذه القصيدة:
كل حى سيموت ** ليس فى الدنيا ثبوت
حركات سوف تفنى ** ثم يتلوها خفوت
و كلام ليس يحلو ** بعده الا السكوت
أيها السادر قل لى ** أين ذاك الجبروت
كنت مطبوعا على النطق ** فما هذا الصموت؟؟
ليت شعرى، أهمودٌ ** ما أراه، أم قنوت؟
أين أملاك لهم فى ** كل أفق ملكوت
زالت التيجان عنهم ** و خلت تلك التخوت
أصبحت أوطانهم من** بعدهم و هى خبوت
لا سميع يفقه القول ** و لا حى يصوت
عمرت منهم قبور** و خلت منهم بيوت
لم تذد عنهم نحوس الدهر ** إذا حانت بخوت
خمدت تلك المساعى ** و انقضت تلك النعوت
إنما الدنيا خيال ** باطل سوف يفوت
ليس للانسان فيها ** غير تقوى الله قوت
شاعر كبير .. وهرم من اهرام الادب العربي
تأثر به الكثير من الشعراء
وكتب عنه الكثير من الكتاب .. وما اوفاه احد حقه
ويذكر لنا شعره مرحلتين من عمره ..
مرحلة الشباب والغي وذكر الخمر والتعزل بالنساء
وهذه كانت قبل أن يبلغ التاسعة والعشرين من العمر
ومرحلة النضج الاخلاقي والقيمي وهي مرحلة ما بعد ذلك
وفي هذا يقول:
نزعتُ عن الصبا وعصيتُ نفسي ** ودافعتُ الغواية بالتأسّي
وقلتُ لصوبتي _ والعين غرقى ** بأدمعها _ رُويْدكِ لم تمسّي
فقد ولّى الصبا الا قليلاً ** أنازعُ سؤره بفضولِ كأسي
ومن يكُ جاوز العشرين تترى ** وأردفها بأربعة وخمس ِ
فقد سفرت لعينيهِ الليالي ** وبان له الهدى من بعدِ لبس ِ
ويقول ايضا في نفس الغرض مخاطباً نفسه:
متى أنتَ عن احموقة الغي نازع ** وفي الشيبِ للنفسِ الابية وازعُ
الا ان في تسع ٍ وعشرين حجة ً ** لكل اخي لهو ٍ عن اللهوِ رادعُ
ويكفي من أدبه تلك المقدمة الفائقة الجمال
التي وضعها لديوان شعره وسفر خلوده
أنصحُ محبي الادب بقراءتها
ومن الجدير بالذكر أن حادثة نفيه الى سرنديب قد أثرت عليه
ايما تأثير .. فقد اعادته اكثر الى الله .. واخذ يرجوه في شعره
أن يعيده الى مصر .. وكان دائما ما يتفائل ويذكر الامل
وقد قرأتُ أنه كان يخطب بالمسلمين هناك الجمعة وكان يعلمهم العربية
¥