تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

[العزف على البيانو]

ـ[تأبط شعراً]ــــــــ[04 - 01 - 2008, 07:07 م]ـ

الحقيقة التي لايمكن تجاهلها هي أن النجاح في الكتابة هو كالنجاح في أي حقل آخر يتطلب كثيراً من الجهد الإنساني المتخصص. وهو في حقيقته كما أرى , أمر يعود إلى المقدرة الفردية والقابلية. والموهبة مقرونة بالاخلاص للهدف والثقة بالنفس والرغبة الملحة في النجاح , ويحتاج هذا أمد طويل يتعلم الإنسان خلاله أساسيات فنه وصنعته , وهذا يستغرق ساعات وأياماً وأشهراً بل وسنوات من الجهد الممل , كما يتطلب انتباهاً دائماً ودقيقاً للتفاصيل .. وفوق ذلك كله يقتضي قدراً من العمل الشاق والكدح الطويل من خلال جلسات التمارين إذا جاز التعبير .. ومن المؤكد أن بعض الكتّاب قد يطورون مهاراتهم بشكل أسرع من كتّاب آخرين , وذلك لأنهم مزودون باستعداد متميز أو لأنهم عباقرة. وعلى الرغم من تلك الاختلافات الفردية فإن الأدب هو الحقل المهم الوحيد من النشاط الإنساني الذي يشعر كثير من الناس أن لهم الحق في النجاح فيه لأنهم يريدون مستميتين أن يكونوا ناجحين. و الانسان المفرط في السذاجة يتوقع أن يكون طبيباً قديراً أو مهندساً أو عالماً دون سنوات من الإعداد والدراسة المتخصصة.

مع أن الحقيقة التي لابد من تكرارها للتأكيد الشديد: أن الكاتب لابد أن يكون لديه المقدرة والرغبة لأن يقدم التضحيات التي يقدمها من يتطلع إلى النجاح في أي حقل متخصص آخر أو ينبغي عليه أن يحول قدراته ونشاطاته إلى مجال آخر. ولابد للكاتب أن يسجل مئات الساعات اليومية من القراءة والكتابة والدراسة ويحاول أن يصل بفنه إلى الكمال. تماماً كما يفعل لاعب كرة القدم الهاوي الذي يخصص ساعات لاتحصى كي يصل إلى مستوى المحترفين المشهورين.

ولكن العمل الشاق والرغبة الأكيدة ليست كافية في الغالب ’ إذ إن المرء لابد أن تكون لديه الموهبة .. إن مايثير الحزن أن ترى شخصاً يرغب أن يكون مؤلفاً مع أنه محروم من الموهبة ومع ذلك لايستطيع أحد أن يقنعه بالتخلي عن حماقته. لقد رأيت أناساً يدمرون حياتهم بإصرارهم على مهنة لاتصلح لهم على الإطلاق ..

إن النجاح الأدبي يحدده عاملان: امتلاك قدرة فطرية ابتداء , والعمل على تطوير هذه الفطرة أو الملكة إلى أقصى مداها وذلك من خلال الجهد المتفاني.

كتب كافكا يقول: لابد أن نكون مخلصين لأحلامنا " والفن كما يقول فرويد يصيب الذات بالهلوسة " وكل أنواع الهلوسة مثل كل أنواع الرؤى ذوات قيمة لاتقدر بثمن.

أما استعمال اللغة للتعبير الأدبي فليس ظاهرة بسيطة ولا هينة , وعلى الرغم من أن استعمالنا للغة في أمور الحياة العادية يبدو مسألة لا تحتاج إلى جهد وعناء , فنحن نوشك أن نستخدم اللغة في كل لحظة من لحظات اليوم من أجل قضاء حاجاتنا , والتفاهم مع الآخرين , والاتصال بكل من يحيط بنا , إلا أن اللغة في العمل الأدبي لا تخضع لهذه المرونة والأخذ التلقائي اللذين تخضع لهما لغة الحياة العادية ونحن نتعامل معها , بل هي ظاهرة معقدة حقاً يحتاج التعامل معها إلى كثير من الجهد والمعاناة والخبرة والمراس.

في رواية المستقبل تتناول الكاتبة الأمريكية أناييس نن فنَ كتابة الرواية من خلال انطباعاتها الشخصية وممارساتها الكتابية الخاصة وتتحدث عن بداياتها الأدبية. وتعود بذاكرتها إلى الأيام الغابرة من حياتها حينما تركت المدرسة في وقت مبكر , لأنها لم تقدم لها الإجابات الشافية حول ما أثار اهتمامها ’ فرأت أن من الأفضل لها أن تعلم نفسها بنفسها , فانكبت على المطالعة وشرعت في كتابة المفكرات اليومية التي استحوذت على اهتمامها الكامل فأبعدتها عن الرواية. وكان سر افتتانها باليوميات أنها كانت تتيح لها الكتابة بحرية وارتجال دون التقيد بأشكال فنية محددة وأُطر مُلزمة. وتنصح المؤلفة الناشئين بممارسة كتابة المفكرات كل يوم , حتى إذا أقبلت ساعة الإلهام الأدبي تكون أقلامهم مهيأة للكتابة بسيولة وتدفق. ومن الآراء الطريفة التي تعرضها أناييس تحذيرها الكتّاب من اللجوء إلى التصحيح والتنقيح المرة تلو المرة , لأن ذلك يؤدي إلى ضياع الوقت ويقود إلى الذبول. وهي تنصح بدل ذلك بالمثابرة والاستمرار في الكتابة حتى الوصول إلى امتلاك ناصية الدقة العفوية والسيولة الكتابية. وهذا يمكن أن يتحقق بالتعود على كتابة اليوميات , والتي تشبه في رأيها العزف على البيانو أو ممارسة الرسم.

ولعل من أبسط ما يدلنا على صعوبة التعامل مع اللغة أن الذين يمارسون الإنتاج الأدبي يعرفون أنها ليست في جميع الأحوال تلك الأداة المطواع الذلول للتعبير عما يريدون ’ بل كثيراً ما تجمع بين أيديهم وتستعصي على نقل الفكرة أو الشعور كما يعيش في نفس صاحبه , بل نحن نلاحظ ذلك في الكتابة العادية , فكلنا قد مارسها , ولقي في استعمالها عنتاً وهو يقدم لفظةً ويؤخر أخرى , أو يضرب عن التعبير كله صفحاً ليبدأ من جديد تعبيراً آخر أكثر ملاءمةً ودقة , أو أقرب إلى نفسه , فإذا كان مثل هذا الجهد موجوداً في الكتابة العادية؛ فإن الذي لا شك فيه أنه أشد عنفاً , وأوضح ظهوراً في لغة العمل الأدبي؛ ذلك لأنها في الأصل لغة ذات سمات خاصة , ومعالم فريدة متميزة تبعدها عن اللغة العادية التي يتداولها الناس في حياتهم اليومية , أو اللغة التي يتداولها العلماء والفلاسفة على سبيل المثال.


بقلم: عبدالعزيز الحميضي
¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير