تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ولكن لا عذر بعد الجدول الدوري لمن يبقى على التصور القديم باحتمال وجود عناصر بشكل عشوائي فيما يخص أوزانها وأعدادها الذرية. كما أن من المغالطة الكبرى أن يقال: " إنه لا يحق لمندلييف أن يحدد عدد العناصر، هو ذكر عناصر ونحن نذكر عناصر" فذلك كان سيكون مقبولا لو أن مندلييف ذكر عناصره جزافا أو شذر مذر أو زعم أنه أوجدها، أما وهو مكتشفها (البعْديّ) لا موجدها (القبْليّ) وهو أطرها في إطار الجدول الدوري الذي يعطي تصورا شموليا عنها وفقا لمعطيات محددة، فقد قطع الطريق على المنطق السابق.

ولكن ربما جاز من باب الخيال العلمي لأحدهم أن يتصور نفسه في بعدين زمني ومكاني آخرين آتاه الله فيهما قدرة تصميم عناصر جديدة، فإن له من هذا الباب فقط أن يقول بوجود عناصر أخرى مختلفة عما بجدول مندلييف يتولى صياغتها، ولا يكفي ذلك بل عليه إن أراد أن يكون قوله منطقيا – حتى في باب الخيال العلمي - أن يضع تصورا كليا – مخالفا لتصور مندلييف – يضبط تناسق عناصره الجديدة.

أجل أطلت الحديث عن الجدول الدوري ومندلييف ولكن ذلك ضروري للتركيز على أهم ما في العروض الرقمي وهو تواصله مع تفكير الخليل وكشفه عن شموليته وانطلاقه منه على ضوئها.

إن تقديم الخليل للعروض العربي مماثل كثيرا لما قدمه مندلييف في الجدول الدوري للعناصر، ولم يقل أحد سأضع عناصر جديدة فلست أقل من مندلييف، ولكن بعض العلماء أخذوا بتصور مندلييف الكلي فكشفوا من خلال تمثل ذلك التصور الكلي وحده عناصر جديدة قبل اكتشافها بالفعل.

قدم الخليل دوائر البحور (ساعة البحور) وهي أقرب ما وصلنا من تراثه إلى تفكيره، كما قدم تفصيلا وشرحا لها، فتم التركيز على التفصيل وتم تهميش دوائر البحور وما تنم عنه من خصائص جاء الرقمي ليعيد التركيز عليها ويستقرئها في تفعيل التفكير في هذا المجال انطلاقا على هدي تفكير الخليل إلى آفاق تليق به.

وكما لا يجوز أن يقال "سآتي بعناصر غير عناصر مندلييف" لأن مندلييف لم يخترع العناصر بل استقرأ تصورا شموليا لها طبقا لفهمه للخصائص الطبيعية لها ما عرفه منها وما لم يعرفه.

فإنه لا يجوز القول "سآتي ببحور غير بحور الخليل" لأن الخليل لم يخترع البحور بل استقرأ تصورا شموليا لها طبقا لفهمه لخصائص لذائقة العربية ممثلة في أوزان شعرها. وإن فائدة كل قول بوجود أو كشف أو تصنيع (بحر) هي مقدار ما يشكله من تحد ودافع للكشف عن مدى شمولية تفكير الخليل وتصويره للعروض العربي.

وعمل الخليل في العروض كعمل مندلييف في الجدول الدوري لعناصرة، وقبل الجدول الدوري كان مفهوما أن يتصور عالم وجود عناصر متعددة بأوزان وأعداد ذرية متعددة بلا قواعد تضبط تناسقها، ولكن ذلك القول وإن حاز احترام العالِم الذي عرف الجدول الدوري لأنه وإن كان خطأ فهو بداية المحاولة للوصول للجدول الدوري.

من باب الخيال العلمي لأحدهم أن يتصور نفسه في بعدين زمني ومكاني آخرين آتاه الله فيهما قدرة تصميم أمة جديدة بذائقة شعرية جديدة، فإن له من هذا الباب فقط أن يقول بوجود بحور أخرى مختلفة عما في دوائر الخليل لاختلاف الذائقة التي صممها عن الذائقة العربية، ولا يكفي ذلك بل عليه إن أراد أن يكون قوله منطقيا – حتى في باب الخيال العلمي - أن يضع تصورا كليا مخالفا لتصور الخليل يضبط تناسق بحور الجديدة بناء على تمثله للذائقة الجديدة.

بقدر ما أفادت التفاعيل في توصيل الصورة التي في ذهن الخليل على شكل جزئيات متجسدة، إلا أن اكتفاء الناس بها صرفهم عن التفكير في القانون أو القوانين الكلية التي تؤطرها، وهذا قاد بعضهم في انصرافهم عن القانون أو القوانين الكلية ورؤيتهم قِطَع الحقيقة دون رابط يربطها معا إلى الاعتقاد بأن كل شطرين متساويي الوزن يمكن أن يكونا شعرا، بل بحرا جديدا من بحور الشعر.

على تباعد الموضوعين العناصر والجدول الدوري لمالديف من جهة والبحور ودوائر الخليل وما تؤدي إليه من نهج تفكير للخليل، إلا أن نهجهما واحد من حيث كونه نمط تفكير في تناول الأشياء والظواهر.

لعل قارئا مفكرا لدىاطلاعه على ما تقدم يقوم بجدولة بحور شعر الخليل ودوائره ومجموعاته على غرار الجدول الدوري بدلالة ما فيها من أرقام نحو عدد المتحركات والسواكن أو الأوتاد والأسباب ونمط تجاور الأسباب مضمنا ذلك أثر أبواب الشمولية المذكورة أدناه.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير