فقد اضطلعت لجان وزارية ومجامع لغوية في القاهرة ودمشق وبغداد والأردن والرباط بجهد في النقد والإصلاح لا بد من استيعابه وتقويمه، وذلك من خلال الجلسات العلمية الساخنة التي كانت تعقدها لمدارسة هذا الموضوع، ومن خلال مئات البحوث والمقالات المنشورة على أعمدة مجلاتها، أو مجلات رائدة عصرئذ كالمقتطف والرسالة والأزهر والهلال والمجلة ... كما نادى عدد غير قليل من الباحثين بضرورة تجديد النحو العربي، من أمثال رفاعة الطهطاوي، وجرجس الخوري، وعلي مبارك وقاسم أمين، ويعقوب عبد النبي، وطه حسين، وأحمد المرصفي، وعبد الله فكري، والشيخ المرصفي، وحفني ناصف، وعلي الجارم ومصطفى أمين، وإبراهيم مصطفى، وأحمد برانق، وأمين الخولي، وشوقي ضيف، وإبراهيم أنيس وتمام حسان ...
فقد عزا الدكتور شوقي ضيف عجز العربي وقصوره في لغته إلى " النحو الذي يقدم للناشئة، والذي يرهقها بكثرة أبوابه وتفريعاته (26)
ورمى إبراهيم مصطفي النحويين بأنهم جنوا على النحو، إذ ضيقوا حدوده، وسلكوا به طريقا منحرفا إلى غاية قاصرة، وضيعوا كثيرا من أحكام الكلام وأسرار تأليف العبارة (27)
وذهب عبد العزيز فهمي إلى أبعد من ذلك حين جعل مشقة دراسة النحو العربي تحمله " على الاعتقاد بأن اللغة العربية من أسباب تأخر الشرقيين، لأن قواعدها عسيرة ودرسها مضلل (28)
كما تمنى طه حسين - بعد أن وصف الإعراب بأنه مخيف جدا - أن يبرئه الله من عقابيل رفع الفاعل بالضمة، وبنائه على السكون، يوما ما (29)
ورأى أن هذا النحو لابد أن يتغير (30) لأنه من الخطأ - في رأيه - أن نأخذ عقول الشباب بتعلمه، والخضوع لمشكلاته وعسره والتوائه (31)
كما رأى آخرون أن هذا النحو لم يوضع بطريقة علمية صحيحة، ولم َيتّبع فيه العلماء القدامى المنهج العلمي الذي يرون أن الالتزام به كان أدعى إلى الدقة والضبط.
وكتب زكريا أوزون كتابه " جناية سيبويه: الرفض التام لما في النحو من الأوهام "
وكتب أحمد درويش كتابه " إنقاذ اللغة من أيدي النحاة "
ورأى المعتدلون ضرورة المراجعة، يقول أحمد حسن الزيات: " وأول ما يجب على المجمع أن ينظر فيه، هو توجيه القائمين على تعليم العربية إلى إصلاح الطريقة التي تعلم بها اللغة، فإنها لا تزال تعلم باعتبارها ألفاظا مفردة وقواعد مجردة، لا تتصل بالعقل ولا بالنفس ولا بالحياة " (32)
ورأى محمد عبده طريق اكتساب اللغة العربية شاقا فـ " ما أحوج العربي إلى تعلم ما يحتاج إليه من لغته، لكن ما أشق العمل، وما أوعر الطريق وما أكثر العقبات في طريق العربي الساعي إلى تحصيل ملكة لسانه، يُفنِي عمره وهو لا يزال يضرب برجليه في أول الطريق (33)
إذن، هناك إجماع من المشتغلين بالدرس النحوي والقائمين على شؤون التعليم على أن في النحو العربي صعوبة وجفافا يحول دون التعلم السليم ... على الرغم من الجهود الجبارة التي يبذلونها، أفرادا ومؤسسات.
لقد كان لهذه الحملات التي شنت على النحو العربي - بغض النظر عن طبيعتها وأهدافها – أكبرُ الأثر في توجيه الإصلاح النحوي في العصر الحديث.
أما مضامين التجديد، فقد تراوحت بين الإلغاء والاستبدال الاصطلاحي والترميم الجزئي، في إطار النظرية النحوية العربية، وبين استثمار النظريات الحديثة لإعادة بناء النحو العربي على أسس شبيهة بما بنت عليه اللغات الطبيعية أنحاءها، كما تراوحت بين العلمية والموضوعية وبين العدائية والانفعالية، وقد جمعت حقا وباطلا، وهوجم النحو بما فيه وبما ليس فيه، وحملت عليه أوزاره وأوزار غيره.
فقد اقترح حسن الشريف إلغاء الممنوع من الصرف، والتسوية بين العدد والمعدود في التذكير والتأنيث، كما اقترح أن يظل نائب الفاعل منصوبا وأن يلزم المنادى والمستثنى حالة واحدة، فيكونان مرفوعين دائما، أو منصوبين ... (34)
واقترح جرجس الخوري المقدسي نصْبَ المنادى المعرب مطلقا، وجعْلَ ضميري الجمع المذكر والمؤنث واحدا، ونصب جمع المؤنث السالم بالفتحة، ورفع الاسم والخبر في جميع النواسخ ... (35)
واقترح إبراهيم مصطفى جعل الخبر من التوابع، وحذف النعت من التوابع، وحذف الفتحة من علامات الإعراب ... (36)
واقترح شوقي ضيف إلغاء ثمانية عشر بابا، واعتبرها من الزوائد الضارة، وهي: باب كان وأخواتها، وباب كاد وأخواتها، وباب الحروف العاملة عمل ليس، وباب ظن وأخواتها، وباب أعلم وأرى وباب التنازع، وباب الاشتغال، وباب الصفة المشبهة، وباب اسم التفضيل، وباب التعجب، وباب أفعال المدح والذم، وباب كنايات العدد، وباب الاختصاص، وباب التحذير، وباب الإغراء، وباب الترخيم، وباب الاستغاثة، وباب الندبة (37)
ومع أن بعض هذه المقترحات يمكن دراسته، إلا أن أغلبها - مع تلبسه بالعلمية - كان يجمع بين الإثارة والغرابة، ولم يكن قائما على أسس علمية ودراسة متفحصة للواقع اللغوي.
إن من أولويات الدرس النحوي البحث في هذه المشاريع التي ملأت الدنيا وشغلت الناس خلال ما يقرب من قرن من الزمان، قصد وضعها في موضعها والاستفادة مما يمكن أن يفيد، وإبعاد ما لا طائل تحته.
¥