لست أريد أن أصنع في هذا الفصل كتابة حتى لا أدير الكلام على شيء, فقد مسخت تلك النفس في نفسي فخلصت لي منها هذه الكلمة الجميلة: (تتم آمالنا حين لا نؤمّل) , ولكني مرسل مطرة سحابي تهطل ما هطلت. فالمرأة الأولى أضاعت على الرجل جنّته, ومن نسلها نساء يُضيّعن على الرجل الجنة وخيالها! ولو استطاعت الأرض أن تفرّ من تحت قدمي مخلوق براءة منه, لكان أول من تختزل تحت رجليه واحدة من هذا النوع!
ملْحُ الله لا يحلو أبداً, فماذا تصنع في نفسٍ لو سالت لكانت بحيرة?
...
بعض النساء تنقص بها الحزن, وبعضهنّ تغيّر بها الحزن, وبعضهن تتم بها حزنك.
...
في قلب الرجل ألف باب, يدخل منها كلّ يومٍ ألف شيء, ولكنْ حين تدخل المرأة من أحدها لا ترضى إلا بأن تُغلقها كلها!
...
النساء منجمُ السعادة, فرجل واحد لا يكاد يمدّ يده حتى يضعها على الجوهرة المشرقة, ومائة رجل يغربلون حصى المرأة وترابها ليجدوا فيها شذْرةَ تلمع!
...
كم من امرأة جميلة تراها أصفى من السماء, ثم تثور يوماً فلا تدل ثورتها على شيء إلا كما يدل المستنقع على أن الوحل في قاعه, فأغْضِب المرأة تعرفها!
...
الحبيب من تلتهمه بكلّ حواسك, فإذا رأيته فقد رأيته وسمعْته وذقته ولمسْته وشممته, والبغيض من تقيئه من كل حواسك.
...
في المرأة حقيقة, ولكنها لن تعرفها إلا بفكر رجل, فالكاملة من لا تسيء أحدا, وإلا أساءت إلى حقيقتها!
...
تجاورت شجرة من الحسك (أي الشوك) وشجرة من الورد, فزهت الورة زهواً عاطرا بطبيعة العطر الذي في مادتها. فقالت لها الحسكة: ويحك! ما هذا الزهو الذي أفسدت به محلك من نفسي? قالت الوردة في كلام هو عطر آخر: لا تتعبي نفسك في تحقيري, فلست أفهم لغة الشوك إلا إذا كان يُنبت الورد!
...
يا من على الحب ينسانا ونذكرهُ
لسوف تذكرنا يوماً وننْساكا
إن الظلام الذي يجلوك يا قمر
له صباح متى تُدركُهُ أخفاكا)
...
في موضع آخر من كتابه (السحاب الأحمر) يُطلعنا الرافعي على نموذج كاشف ومُعبّر, عن أسلوبه الأدبي في هذا اللون من كتاباته. صياغة متأنقة, ومفردات تشي باتكائه على موروث اللغة وحديثها في آن, وسيطرة كاملة على أدواته, ووجدان يعتصم بالكبرياء وهو يسترُ نزفه الداخلي وأنينه الخافت خشية افتضاح أمره!
يقول الرافعي وهو يتحدث عن صاحبة أجنبية لأحد أصدقائه: (أما صاحبته فامرأة فرنسية, جميلة الوجه في طلعة الصبح, شابة الجسم شباب الضحى, ملتهبة الأنوثة كشعاع الظهيرة, رقيقة الطبع رقة الأصيل, زاهية المنظر في مثل شفق المغرب من تأنقها, ثم هي تنتهي من كل ذلك إلى مخبرٍ أشد ظلمة من سواد الليل .. ومن أين اعتبرتها ألفيتها رذيلة مهذبة يترقرق فيها ماء العلم ويجول في حسنها شعاع الفلسفة, كأنها عين فاتنة تدور فيها دمعة دلال!
ولم أكد أراها حتى أخذني جمالها, فإن لها عينين ركّبتا تركيبا يجر المصائب على القلب, تلقيان أشعة ضاحكة أو عابسة, يُخلّقُ منها للقلوب حوادث وتواريخ, وترمي بنظرات تُبرئ الصدور أو تُمرضها, وتبسم بوجهها كلّه نوعا من الابتسام يكاد يسيل من كل ناحية في وجهها قبلات, أما افترار شفتيها فهو جمال على حدة, يشبه نقل معاني الخمر من فمٍ إلى فم.
امرأة ساحرة, لا أدري إن كانت بُنيت على السحر أو على الحب, ولا إن كان هذا الحب قد خُلق لعنة عليها, أم هي خُلقت لعنة عليه, والحبُّ دائما بركة امرأة, ولعنة امرأة! والتي تزرعه في كل مكان هي التي لا تحصد منه شيئا, فإن نالها شيء منه كان تعباً عليها روْحاً لسواها.
وأشد ما في هذه المرأة الجميلة من الفتنة, اجتماع شهواتها في صوتها النديّ المُستطرب المتحزّن, الذي لا يخلو أبداً من حرفٍ تسمع فيه همس قبلة من قبلاتها!
بيد أني مع كل ذلك استعصمتُ بفلسفتي وحكمتي, فلم أرها إلا في مثل حريرة التفاحة? إذا أفرط عليها النضج فابيضّت واحمرّت وفاحت ولمعت وإنّ العفنَ لَبادٍ من تحتها يُحذّر منها ويُنذر, وفي مثل فروة الدبّ: استرسلت ولانت في نعومتها ولكن لا منفعة منها إلا بقتل لابسها وإزهاق الحيوان كله في سبيل الجمال الظاهر من جلده.
¥