ونظرت إليها نظرة تخطّت بها الشباب وأيامه, فإذا هي بائسة أملق الدهر حُسنها وكان ذهبا على جسمها وفضة, وإذا هي عجوز هالكة قد انحنت تحت لعنات ماضيها وتركتها دنياها كالسجن المتهدم, لا يُذكّر مع انتقاضه إلا بلصوصه ومجرميه وعقابهم وآثامهم, وتشقى بمعانيه بعد الخراب حتى حجارته وحتى ترابه!
وأبصرتُ في هذه الحسناء اللّعوب التي تستوقدها الضحكة بعد الضحكة, تلك الهامدة المريضة التي تُطفئها الحسرة بعد الحسرة, وسقطت الشجرة الخضراءُ النامية فإذا في مكانها جذْع خشبي مُلْقى زهيد فيه نور السماء وطين الأرض معا!
وتمثلت لي هذه المتكئة على طرازها وأرائكها, تتبرج في سندسها وحريرها, فرأيتها ممدودة في حفرتها مُسجاة بأكفانها, قد هيل عليها ترابها ولم يرحمها راحم ولا النسيان يستر رذائلها عند من عرفوها, وقد اجتمع عليها بعد عشاقها من دود الناس عشاق آخرون من دود الأرض, ويفنى جسمها حين يفنى, ويبقى ضميرُها الروحي إلى الأبد ضمير مومس!
فلما وضعتُ أمرها على ما خُيّل إليّ من عاقبتها, إذا هي تفور كما يفور النبع القذر بالحمأة التي فيه, وإذا هي كالخشبة المتقدة في حريقها: من فوقها ظُلَلٌ من النار ومن تحتها ظلل, وإذا جمالها قد استحال في عينيّ وانفصل منها فأظهرها وظهر معها في بريق الزجاجة من الخمر بجانب السكّير المتحطم, تتساقط نفسه مرضا وسكرا, فكل ما كان فيها جمالا فهو فيه أقبح القبح!
ورثيت لها أشدّ رثاء وأبلغه في الرحمة والرقة, حتى عادت نظراتها تقطر على نفسي دموعا سخينة كدموع الذلّ! ويا حرّة قلبي من الإشفاق عليها وأنا أرى في احمرار جمْرتها سواد فحمها, وفي أسباب سرورها أسباب همّها, ويا لهفي عليها إذ أرى هذه الجميلة التي لم تنظر أكثر ما نظرت إلا إلى خطيئة, ترفع نظرها أحيانا إلى السماء بقوة, في داخلها, كأنها تقول لمن يفهم عنها: إنْ هنا القدَر وهناك المُقدّر!
ويا بؤسها حين لم تعد تظهر في روحي إلا كما يتخايل ظل القمر في الماء: أنظرُ فيه الصورة من غير معنى, والضوء من غير قبس, وأرى فيه الخيال وليس فيه القمر!).
...
وأخيرا, يقول الرافعي:
(لا يصحّ الحب إلا بين اثنينْ إلا إذا أمكن لأحدهما أن يقول للآخر: يا أنا .. ومن هذه الناحية كان البغضُ بين الحبيبين - حين يقع - أعنف ما في الخصومة, إذ هو تقاتل روحين على تحليل أجزائهما الممتزجة, وأكبر خصيمين في عالم النفْس, مُتحابّان, تبَاغَضا)
منقول عن فاروق شوشة
ـ[أبو سارة]ــــــــ[15 - 09 - 2003, 05:44 م]ـ
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
جزاك الله خيرا على هذا النقل، ورحم الله العالم الأديب الرافعي، فلو لم يكن له غير كتاب/ تاريخ آداب العرب، لكان فخرا له 0
رحمه الله رحمة واسعة وغفر الله له ذنبه كله دقه وجله علانيته وسره0
ـ[ألف بيت]ــــــــ[17 - 11 - 2003, 07:33 ص]ـ
من أحسن كتب الرافعي (وحي القلم وَ تحت راية القرآن وَ تاريخ الأدب)
وقال العلامة علي الطنطاوي ـ رحمه الله تعالى ـ أن كتاب السحاب الأحمر وكتاب فلسفة الجمال والحب ورسائل الورد متعبة للقارىء.
وصدق رحمه الله فقد قرأتها ولم أخرج بكبير فائدة.
ـ[ a_n_s_2000] ــــــــ[25 - 11 - 2003, 02:57 م]ـ
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته صلى الله عليه وسلم شكراً لك اخي الكريم على هذا المقال