وقد كان - رحمه الله - يصلي في كل ليلة ثلاث عشرة ركعة، وكان يختم القرآن في كل ليلة رمضان ختمة، وكانت له جدة ومال جيد ينفق منه سراً وجهراً، وكان يكثر الصدقة بالليل والنهار، وكان مستجاب الدعوة مسدد الرمية شريف النفس، بعث إليه بعض السلاطين ليأتيه حتى يسمع أولاده عليه فأرسل إليه: في بيته العلم والحلم يؤتى - يعني إن كنتم تريدون ذلك فهلموا إلي - وأبى أن يذهب إليهم.
والسلطان خالد بن أحمد الذهلي نائب الظاهرية ببخارى، فبقي في نفس الأمير من ذلك، فاتفق أن جاء كتاب من محمد بن يحيى الذهلي بأن البخاري يقول لفظه بالقرآن مخلوق - وكان وقد وقع بين محمد بن يحيى الذهلي وبين البخاري في ذلك كلام وصنف البخاري في ذلك كتاب أفعال العباد - فأراد أن يصرف الناس عن السماع من البخاري، وقد كان الناس يعظمونه جداً، وحين رجع إليهم نثروا على رأسه الذهب والفضة يوم دخل بخارى عائداً إلى أهله، وكان له مجلس يجلس فيه للإملاء بجامعها فلم يقبلوا من الأمير، فأمر عند ذلك بنفيه من تلك البلاد، فخرج منها ودعا على خالد بن أحمد، فلم يمض شهر حتى أمر ابن طاهر بأن ينادى على خالد بن أحمد على أتان، وزال ملكه وسجن في بغداد حتى مات، ولم يبق أحد يساعده على ذلك إلا ابتلي ببلاء شديد، فنزح البخاري من بلده إلى بلدة يقال لها: خرتنك على فرسخين من سمرقند، فنزل عند أقارب له بها وجعل يدعو الله أن يقبضه إليه حين رأى الفتن في الدين، لما جاء في الحديث:) وإذا أردت بقوم فتنة فتوفنا إليك غير مفتونين (ثم اتفق مرضه على إثر ذلك.
فكانت وفاته ليلة عيد الفطر - وكان ليلة السبت - عند صلاة العشاء وصلى عليه يوم العيد بعد الظهر من هذه السنة - أعنى سنة ست وخمسين ومائتين - وكفن في ثلاثة أثواب بيض ليس فيها قميص ولا عمامة، وفق ما أوصى به، وحين ما دفن فاحت من قبره رائحة غالية أطيب من ريح المسك، ثم دام ذلك أياماً، ثم جعلت ترى سواري بيض بحذاء قبره.
وكان عمره يوم مات ثنتين وستين سنة.
وقد ترك - رحمه الله - بعده علماً نافعاً لجميع المسلمين، فعلمه لم ينقطع بل هو موصول بما أسداه من الصالحات في الحياة، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:) إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث، علم ينتفع به (0
الحديث رواه مسلم وشرطه في صحيحه هذا أعز من شرط كل كتاب، صنف في الصحيح لا يوازيه فيه غيره، لا صحيح مسلم ولا غيره.
وما أحسن ما قال بعض الفصحاء من الشعراء:
صحيح البخاري لو أنصفوه * لما خط إلا بماء الذهب
هو الفرق بين الهدى والعمى * هو السد بين الفتى والعطب
أسانيد مثل نجوم السماء * أمام متون لها كالشهب
بها قام ميزان دين الرسول * ودان به العجم بعد العرب
حجاب من النار لا شك فيه * يميز بين الرضى والغضب
وستر رقيق إلى المصطفى * ونص مبين لكشف الريب
فيا عالماً أجمع العالمو * ن على فضل رتبته في الرتب
سبقت الأئمة فيما جمعت * وفزت على زعمهم بالقصب (القصب=السبق)
نفيت الضعف من الناقل * ين ومن كان متهماً بالكذب
وأبرزت في حسن ترتيبه * وتبويبه عجباً للعجب
فأعطاك مولاك ما تشتهيه * وأجزل حظك فيما وهب
أما كتابه (الجامع الصحيح) فقد جمع فيه من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من سبعة آلاف، عقد لها مائة كتاب ـ أو تسعة وتسعين ـ، وتفنن فيها كما شاء له علمه وفهمه، حتى قال الحاكم أبو أحمد: "لم أرَ تصنيف أحد يشبه تصنيفه في الحُسْن"، والتمس في تأليفه البركة، واستمسك فيه بالإخبات والإخلاص فقال: "ما وضعتُ في كتاب الصحيح حديثاً إلا اغتسلتُ قبل ذلك وصلّيتُ ركعتين". وقد ذكر الحافظ ابن حجر أنّ الإمام البخاري حوّل تراجم جامعِهِ من المسودة وبيّضها بين قبر النبي صلى الله عليه وسلم ومنبره، وكان يصلي لكلِّ حديث ركعتين.
ومما يُشهد به للبخاري في هذا الكتاب المبارك أنه أسس منهجاً نقدياً أصيلاً، أعرض فيه عن الأحاديث الضعيفة والخرافات السخيفة التي تورّمت بها الثقافة الإسلامية حيناً من الدهر؛ جهلاً بالصحيح والمتواتر، وصار المبتدعة يعارضون بها القرآن! فالبخاري فارس الحلبة وأول من اشترط الالتزام بالأحاديث الصحيحة والاكتفاء بها، وفق ضوابط علمية دقيقة، ورؤية نقدية عميقة، ولفتات فقهية رشيقة.
¥