تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ثم صار الشيخ إلى جذور الفساد الأدبي في حياة أمتنا اليوم، وهو فصل مهم جدير بالعناية والإطلاع ودراسته دراسة واعية مستوعبة، حيث ربط الشيخ بين الحروب الصليبية ونشاط الرهبان، واستطرد في بيان المعركة بين الأمتين المسلمة والنصرانية، حتى ربط بين الحروب القديمة وحركة الإستشراق والتي أقبلت مع هجمة الإستعمار، وأعاد التنبيه إلى كتابه " أباطيل وأسمار" حيث جعله فاضحاً لهذه السموم التي قبعت في داخل أمتنا تعمل فيها فتكا وتدميراً، يقول الشيخ - رحمه الله تعالى- واصفاً تلك الهجمات:_

"ومع هذه الأساطيل الفاجرة، خرجت من مكامنها أعداد وافرة من رجال يجيدون اللسان العربي وألسنة دار الإسلام الآخر، ومنهم رهبان وغير رهبان، وركبوا البرّ والبحر، وزحفوا زرافات ووحداناً في قلب دار الإسلام: على ديار الخلافة في تركية، وعلى الشام، وعلى مصر، وعلى جوف إفريقية وممالكها المسلمة = وخرجوا في القلوب حميّة الحقد المكتم، وفي النفوس العزيمة المصممة، وفي العيون اليقظة، وفي العقول التنبه والذكاء، وعلى الوجوه البشر والطلاقة والبرءاة وفي الألسنة الحلاوة والخلابة والمماذقة، ولبسوا لجمهرة المسلمين كل زيّ: زي السائح، وزيّ الصديق الناصح، وزي العابد المسلم المتبل = وتوغلوا يستخرجون كل مخبوء كان عنهم من أحوال دار الإسلام، أحوال عامته وخاصته، وعلمائه وجهّاله. وحلمائه وسفهائه، وملوكه وسوقته، وجيوشه ورعيته، وعبادته ولهوه، وقوته وضعفه، وذكائه وغفلته، حتى تدسّسوا إلى أخبار النساء في خدورهنّ، فلم يتركوا شيئاً إلا خبروه وعجموه، وفتشوه وسبروه، وذاقوه واستشفوه. ومن هؤلاء، ومن خبرتهم وتجربتهم، خرجت أهم طبقة تمخضت عنها اليقظة الأوروبية " طبقة المستشرقين" الكبار، وعلى علمهم وخبرتهم وتجاربهم، رست دعائم " الاستعمار" ورسخت قواعد التبشير ".

الاستشراق

ثم كشف عن طريقة الاستشراق في دراسة أمتنا، ودراسة ثقافتها ودينها وذلك عن طريق الإهتمام بالمخطوطات التي سارع المستشرقون إلى اقتنائها عن طريق الشّراء أو النّهب، ثم عن طريق الرحلات الاستكشافية التي جابت الأماكن بلا كلّ ولا ملل، ووصلوا إلى المجاهيل وأعماق الصحراء والقرى البعيدة النائية، وذلك كله من أجل الإحاطة بهذه الأمة والإطلاع على كل شيء فيها ليسهل التعامل معها وأدراك مكامن قوتها حتى وصلوا إلى خبرة (بكل ما في دار الإسلام قديماً، وما هو كائن فيها حديثا).

وكان من تنبيهاته المهمة أن ما كتبه المستشرقون لا يمكن أن يكون قاعدة لأهل هذا الدين ولا لقوم هذه الأمة لأن كتب (الاستشراق) ومقالاته ودراسته كلها مكتوبة أصلا للمثقف الأوروبي وحده لا لغيره، وأنها كتبت له لهدف معين، في زمان معين، وبأسلوب معين، لا يراد به الوصول إلى الحقيقة المجردة، بل الوصول الموفق إلى حماية عقل هذا الأوروبي المثقف من أن يتحرك في جهة مخالفة للجهة التي يستقبلها زخف المسيحية الشمالية على دار الإسلام في الجنوب.

ثم قام الشيخ - رحمه الله- ببيان أنه لا يمكن للمستشرق أن يستوعب ثقافة هذه الأمة، ولا أن يقوم بتحليلها كما هي في نفسها .. يقول: - غاية ما يمكن أن يحوزه (مستشرق) في عشرين أو ثلاثين سنة، وهو مقيم بين أهل لسانه الذي يقرع سمعه بالليل والنهار، أن يكون عارفاً معرفة ما بهذه (اللغة) وأحسن أحواله عندئذ أن يكون في منزله طالب عربي في الرابعة عشرة من عمره، بل هو أقل منه على الأرجح ..

أما إمكانية إحاطة المستشرق لأمر الثقافة فهذا أمر عسير جداً، وهو أبعد من قضية أحاطته للغة .. يقول الشيخ - رحمه الله تعالى-:

" وإذا كان أمر " اللغة" شديداً لا يسمح بدخول " المستشرق" تحت هذا الشرط اللازم للقلة التي تنزل ميدان " المنهج" و " ما قبل المنهج"، فإن شرط "الثقافة" أشد وأعتى، لان " الثقافة كما قلت آنفا: " سرٌّ من الأسرار الملثّمة في كل أمة من الأمم وفي كل جيل من البشر، وهي في أصلها الراسخ البعيد الغور، معارف كثيرة لا تحصى، متنوعة أبلغ التنوع لا يكاد يحاط بها، مطلوبة في كل مجتمع إنساني، للإيمان بها أولاً من طريق العقل والقلب = ثم للعمل بها حتى تذوب في بنيان الإنسان وتجري منه مجرى الدم لا يكاد يحس به - ثم الإنتماء إليها بعقله وقلبه انتماءً يحفظه من التفكك والانهيار" ... وهذه القيود الثلاثة " الإيمان" و " العمل" و "

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير