الإنتماء"، هي أعمدة " الثقافة" وأركانها التي لا يكون لها وجود ظاهر محقق إلا بها، وإلا انتقض بنيان " الثقافة"، وصارت مجرد معلومات ومعارف وأقوال مطروحة في الطريق، متفككة لا يجمع بينها جامع، ولا يقوم لها تماسك ولا ترابط ولا تشابك.
وبديهي، بل هو فوق البديهي، أن شرط " الثقافة" بقيوده الثلاثة، ممتنع على " المستشرق" كل الامتناع، بل هو أدخل في باب الاستحالة من اجتماع الماء والنار في إناء واحد، كما يقول أبو الحسن التُّهامي الشاعر:
ومكلِّفُ الأيام ضدّ طباعها متطلِّبٌ في الماء جذوة نارِ
وذلك أن " الثقافة: و " اللغة" متداخلتان تداخلا لا انفكاك له، ويترادفان ويتلاحقان بأسلوب خفي غامض كثير المداخل والمخارج والمسارب، ويمتزجان امتزاجاً واحداً غير قابل للفصل، في كلّ جيل من البشر وفي كله أمة من الأمم. ويبدأ هذا التداخل والترافد والتلاقح والتمازج منذ ساعة يولد الوليد صارخاً يلتمس ثدي أمِّه تلمساً، ويسمع رجع صوتها وهي تهدهده وتناغيه، ثم يظل يرتضع لبان " اللغة" الأول، ولبان " الثقافة" الأول، شيئاً فشيئا، عن أمه وأبيه حتى يعقل، فإذا عقل تولاء معهما المعلمون والمؤدبون حتى يستحصد (أي يشتد عوده)، فإذا استحصد وصار مطيقاً إطاقة ما للبصر بمواضع الصواب والخطأ، قادراً قدرة ما على فحص الأدلة واستنباطها فناظر وباحث وجادل، فعندئذ يكون قد وضع قدمه على أول الطريق = لا طريق " المنهج" و " ما قبل المنهج"، فهذا يعيد جداً كما رأيت= بل على الطريق المفضي إلى أن تكون له " ثقافة" يؤمن بها عن طريق العقل والقلب = ويعمل بها حتى تذوب في بنيانه وتجري منه مجرى الدم لا يحسه به = وينتمي إليها بعقله وقلبه وخياله انتماءً يحفظه ويحفظها من التفكك والإنهيار.
مفهوم الثقافة
ثم بين الشيخ ما يكتنف لفظ الثقافة من تزوير وغموض، وبدا يعرف قارئه ما يقصد بلفظ الثقافة وأنها تقوم على شيئين:
أولهما: أصول ثابتة مكتسبة تنغرس في نفس الإنسان منذ مولده حتى يشارف حد الإدراك، وهو ما يتلقاه من أبويه وأهله وعشيرته، وسمّى هذا الطور بأساس التسخير…
وثانيهما:- فروع منبثقة عن الطور الأول، وهو طور النظر والمباحثة وممارسته التفكير والتنقيب والفحص، فعندئذ تتكون النواة الجديدة. (ويبدأ العقل عمله المتسبب في الإستقلال بنفسه، ويستبد بتقليب النظر والمباحثة وممارسة التفكير والتنقيب والفحص وهذه تسمى "ثقافة"
نفي خديعة الثقافة العالمية
ثم يشرع في بيان ارتباط الثقافة واللغة بالدين، وينفي وجود ثقافة (عالمية)، أي ثقافة واحدة يشترك فيها البشر جميعا، ويقول: إن هذا (تدليس كبير، وإنما يراد بشيوع هذه المقولة بين الناس والأمم، هدف آخر يتعلق بفرض سيطرة أمة غالبة على أمة مغلوبة لتبقى تبعا لها… فالثقافات المتباينة تتحاور وتتناظر وتتناقش، ولكن لا تتداخل تداخلاً يفضي إلى الامتزاج البتة، ولا يأخذ بعضها على بعض شيئاً، إلا بعد عرضه على أسلوبها في التفكير والنظر والاستدلال .. ويفضي بعد هذا إلى وجوب استبعاد عمل المستشرقين وإقصائه في دراستهم لأمتنا وتاريخها وثقافتها.
رواد النهضة كما يراهم شاكر:
والشيخ شاكر يرى أن الأمة كان بإمكانها أن (تنهض) وأن تدخل طوراً تجديدياً في تاريخها المعاصر، ولكن كان ما كان… ويعلق أن النهضة كان يمكن لها أن تكون على يد خمسة رجال هم:-
1 - عبد القادر بن عمر البغدادي (1682م) صاحب " خزانة الأدب" في مصر، وهو الذي يعتبره الشيخ شاكر الرائد في تبنّيه إعادة قدرة الأمة على التذوق، تذوق اللغة والشعر والآداب وعلوم اللغة.
2 - الجبرتي الكبير حسن بن إبراهيم (والد صاحب التّاريخ) (1774م) في مصر، ويعتبره الشيخ/ شاكر رائد في تنبيه الأمة إلى الصناعات الحضارية وعلوم الكيمياء والفلك.
3 - محمد بن عبد الوهاب (1792م) في جزيرة العرب، ويعتبره الشيخ شاكر رائداً في تحقيق النّهضة الدينية، وردّ البدع والعقائد الفاسدة.
4 - محمد عبد الرّزّاق المرتضى الزبيدي صاحب " تاج العروس" (1790م) في الهند وفي مصر، فهو رائد بعث التراث اللغوي الديني.
5 - محمد بن علي الشوكاني (1834م) في اليمن، ويعده الشيخ شاكر إماماً في إحياء عقيدة السلف ونبذ التقليد والدعوة إلى الوحدة وتجريم التعصبّ.
¥