تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

.. قال الفرزدق يهجو عاصماً العبدي، وكان أدل العرب وأعرفهم بالنجم وأقدمهم على هول الليل بالليل، وأراد أن يضل الفرزدق ويقتله غِشاً وذاك أنه استصحبه إلى المدينة ليلقى سعيد بن العاص، ورغبه في جعله، فلما ركب الفلاة أراد أن يغتال الفرزدق ليحظى به عند زياد ويحبوه ويعطيه، فلما كانا في اللّيل وأمعنا في السير انتبه الفرزدق فإذا النجم على غير الطريق، فصاح بالعنبري إنك على غير الطريق، فانتبه فقال: أنت على الطريق، ناولني إداوتك فإني عطشان وخبأ اداوته، فقال الفرزدق: والذي أحلفُ به لتموتَن قبلي، وشهرَ السيف عليه فأقامه على الطريق، وعرض لهما الأسد على الطريق، فقال العنبري هذا الأسد على الطريق، فأناخ الفرزدق ناقته وأخذ سيفه وجحفته وأقبل إلى الأسد وهو يقول:

فلأنتَ أهونُ من زياد شَوْكةً ... اذْهَبْ إليكَ محزم الشغار

فتنحى الأسد عن الطريق ومضيا، فقلب الفرزدق هذا المعنى كله ونسب العنبري إلى الجبن وأنه ليس بالخرّيت راعٍ لا يصلحُ إلا لرعي الغنم وطعن في نسبه. فقال شعراً:

ما نحن إنْ جارَتْ صدوُر ركابنا ... بأول مَن عزت هدايةُ عاصِمِ

أراد طريق العنصلين فياسَرَت ... به العيسُ في ناي الصوى متشايم

العنصلين على طريق مكة، وياسَرَت: أخذت يساراً والمتشايم الآخذ إلى الشام، قال: وسمعتُ فصيحاً يقول: توصلوا أتوا الموصل فأسقط الميم.

فكيف يضل العنبريُ ببلدةٍ ... بها قطعتْ عنه سيورُ التمائِمِ

أي لو كان عنبرياً لعرف بلاده.

فإن امرؤ ضل البلاد التي بها ... تغبر ثديي أمه غير حازمِ

تغبر: أي أتم رضاعه، والغبر بقية اللبن.

بلاد بها ذلت يديه ورأسه ... ورجليه من جار استِها المتضاجِمِ

يعني بالجار الفرج وأصل الضجم العوج في شفتي الرجل.

شعر:

ولو كانت في غير الفلاة خنوعاً ... خنوعاً بأعناق الجداء التوائم

أي لو كان في رعي الجداء لأحسن رعيها وأخذها بأعناقها ففصلها عن أمهاتها.

شعر:

وكنتُ إذا كلفتُ صاحب ثلةٍ ... سرى الليل دنا أم فروج المخارِم

الثلة: القطيع من الشاء والثلة الجماعة من الناس ودنا قصر والفروج الطرق.

رأى الليل داغول عليه ولمْ يكن ... يكلفه المِعزى عظام المجاشِم

الغول الموت ومنه غالته غول.

أنخنا بهجرٍ بعدما وَقَد الحصى ... وذابَ لُعابُ الشَمسِ فوقَ الجماجم

ونحنُ بِذي الأرطي يعيس ظماؤنا ... لنا بالحصى شرباً صحيحَ المقاسم

أي ليس فيه ضيم، أي لا يفضل فيه أحد على أحدٍ. شعر:

فلما تضاما في الإداوة أجهشَت ... إلى غضون العنبري الجراضِم

تضافى غضونه عروق حلقه وثنيه، والجراضم الشديد الأكل، ويروى: فلما تصافنا الإداوة، والتصافن: التقاسم على الماء عند قلته وضيقه في المفاوز.

وجاء بجلمودٍ له مثل رأسِهِ ... ليسقي عليه الماء بين الصرايِمِ

تشنع عليه بهذا لأنَ المقلة حصاة صغيرة يقسم عليها.

فضاقَ عن الأثفية القعب إذ رمى ... بهما عنبري مفطر غير صائم

يريد أن القعب لم يسع الجلمود لِعَظَمه.

ولمّا رأيتُ العبري كأنَه ... على الكفل حران الضباع القشاعِمِ

أي المسان، وقيل الضّبع لا صبرَ لها على العطش.

صدى الجوف يهوي مسمعاة قد التظى ... عليه لَظى يوم من القيظِ جاحم

جاحم: شديد، يهوي أي يجدد ما في رأسه من العطش.

شددتُ له أزري وخضخَضْت نظفةً ... لِصديان يرمي رأسه بالسمايم

أي تحيات لأوثره على نفسه خوفاً من أن يموت.

وقلتُ له ارفع جلد عينيك إنما ... حياتك بالدهنا وحيف الرواسم

أمر صاحبه أن يشمر للسير أي حياتك في قطع الطريق.

شعر:

عشية خمس القوم إذ كان فيهم ... بقايا الأداوي في النفوس الكرائم

فآثرتُه لما رأيتُ الذي به ... على القوم أخشى لا حقاتِ الملاوم

حفاظاً ولو أن الأداوة تشترى ... غلت فوق أثمان عظام المغارِمِ

على ساعة لو كان في القوم حاتماً ... على جوده ضَنت بها نفسُ حاتم

وكان كأصحاب ابن مامة إذ سقى ... أخا النمر العطشان يوم الضجاعم

الضجاعم: من منازل الفرزدق، شبه الفرزدق بنفسه بكعب بن مامة الإيادي لما آثر العنبري على نفسه، وذلك أن كعباً نزل بموضع يقال وهب أو وهبين وقد اتقد القيظ، وكان صديقه ورفيقه التمري في سفرته فعطش القوم فاقتسموا وكاد النمري يهلك عطشاً، فقال لساقي القوم: اعط أخاك النّمري يصطبح، فجعل له الماء صبوحاً لعزه، وإنما يكون الصبوح في اللبن والنبيذ، ثم أعاد القوم القسم فنظر كعب إلى النمري قد غلبه العطش، ودارت عيناه في رأسه، فقال لصاحب القسم: اعط أخاك النمري يصطبح، فآثره بشربته، ثم ثلثَ الساقي فآثره، وارتحل القوم، فلما ركبوا الفلاة أناخ كعب ناقته وقال: يا قوم النجاء ألا ماء معكم فإني أحسّ الموت، فمات كعب وارتحل أصحابه، ومعهم نجيبته وسلاحه ومتاعه فأوردوه أهله فقال أبوه وقد كتم بعض الخبر شعراً:

أمِن نطفِ الدهنا وقلة مائِها ... ذواتِ الرمالِ لا يكلمني كعبُ

فلو أنني لاقيتُ كعباً مكسراً ... بأنقاء وهب حيثُ ركبها وهبُ

لآسيت كعباً في الحياة التي ترى ... فعشنا جميعاً أو لكان لنا شربُ

المصدر – المرزوقي في كتابه " الأزمنة والأمكنة0

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير