فالذي ذهب إليه أكثر أهل العلم أن أحاديث النهي عن الإسبال مقيدة بالخيلاء، فإذا انتفى الخيلاء لم يكن الإسبال محرماً، واختلفوا بعد ذلك في الكراهة وعدمها، وممن ذهب إلى عدم التحريم إذا لم يكن للخيلاء: الشافعي وأحمد، وممن ذكر ذلك من المالكية: سليمان بن خلف الباجي في كتابه المنتقى شرح الموطأ والنفرواي في الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني.
ومن الشافعية: الإمام النووي وشيخ الإسلام زكريا الأنصاري والإمام شهاب الدين الرملي والحافظ ابن حجر الهيتمي وغيرهم كثير.
وممن نص على ذلك من الحنابلة: الإمام ابن قدامة في المغني وشيخ الإسلام ابن تيمية في شرح العمدة والرحيباني في مطالب أولي النهى وابن مفلح في الآداب الشرعية والمرداوي في الإنصاف.
وإليك طرفاً من أقوالهم في المسألة، قال الباجي في المنتقى: وقوله صلى الله عليه وسلم الذي يجر ثوبه خيلاء يقتضي تعليق هذا الحكم بمن جره خيلاء، أما من جره لطول ثوب لا يجد غيره، أو عذر من الأعذار، فإنه لا يتناوله الوعيد.
وتعقب العراقي ابن العربي حيث ذهب إلى تحريم الإسبال مطلقاً بخيلاء أو بغير خيلاء، فقال العراقي: وهو مخالف لتقييد الحديث بالخيلاء.
وقال ابن قدامة: ويكره إسبال القميص والإزار والسراويل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر برفع الإزار، فإن فعل ذلك على وجه الخيلاء حرام.
وقال الشوكاني في نيل الأوطار: وقد عرفت ما في حديث الباب من قوله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: إنك لست ممن يفعل ذلك خيلاء وهو تصريح بأن مناط التحريم الخيلاء، وأن الإسبال قد يكون للخيلاء، وقد يكون لغيره، فلابد من حمل قوله"فإنها من المخيلة" في حديث جابر بن علي أنه خرج مخرج الغالب، فيكون الوعيد المذكور في حديث الباب متوجهاً إلى من فعل ذلك اختيالاً، والقول: بأن كل إسبال من ا لمخيلة أخذاً بظاهر حديث جابر ترده الضرورة، فإن كل أحد يعلم أن من الناس من يسبل إزاره مع عدم خطور الخيلاء بباله.
ثم قال: وبهذا يحصل الجمع بين الأحاديث وعدم إهدار قيد الخيلاء المصرح به في الصحيحين.
ثم قال: وحمل المطلق على المقيد واجب، وأما كون الظاهر من عمرو أنه لم يقصد الخيلاء فما بمثل هذا الظاهر تعارض الأحاديث الصحيحة.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في شرح العمدة 4/ 363: وهذه نصوص صريحة في تحريم الإسبال على وجه المخيلة، والمطلق منها محمول على المقيد، وإنما أطلق ذلك؛ لأن الغالب أن ذلك إنما يكون مخيلة.
ثم قال: ولأن الأحاديث أكثرها مقيدة بالخيلاء فيحمل المطلق عليه، وما سوى ذلك فهو باقٍ على الإباحة، وأحاديث النهي مبنية على الغالب والمظنة.
ثم قال: وبكل حال فالسنة تقصير ا لثياب، وحدِّ ذلك ما بين نصف الساق إلى الكعب، فما كان فوق الكعب فلا بأس به، وما تحت الكعب في النار.
ومن العلماء من فهم من نصوص النهي تحريم الإسبال مطلقاً، ومنهم: الإمام ابن العربي والإمام الذهبي، والإمام ابن حجر العسقلاني وهو قول له حظ كبير من النظر، وإن قل القائلون به؛ لأن النهي عن الكل ورد في حديث واحد، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "إزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه، لا جناح عليه ما بينه وبين الكعبين، وما أسفل من الكعبين في النار" يقول ثلاثاً: "لا ينظر الله إلى من جر إزاره بطراً" رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه واللفظ له.
قال الحافظ ابن حجر في الفتح: (وفي هذه الأحاديث أن إسبال الإزار للخيلاء كبيرة، وأما الإسبال لغير الخيلاء فظاهر الأحاديث تحريمه أيضاً).
وقال ابن العربي رحمه الله: (لا يجوز للرجل أن يجاوز بثوبه كعبه، ويقول: لا أجره خيلاء، لأن النهي تناوله لفظاً، ولا يجوز لمن تناوله اللفظ حكماً أن يقول لا أمتثله، لأن العلة ليس فيَّ، فإنها دعوى غير مسلمة، بل إطالته ذيله دالة على تكبره) انتهى.
¥