ثم نهض عليه السلام إلى أن نزل بذي طُوى، فبات بها ليلة الأحد لأربع خَلَوْنَ لذي الحجة، وصلى الصبح بها، ودخل مكة نهاراً من أعلاها من كُداءَ من الثنية العُليا، صبيحة يوم الأحد المذكور المؤرخ.
فاستلمَ الحجرَ الأسود،وطافَ رسولُ الله e بالكعبة سبعاً، ورَمَل ثلاثاً منها و مشى أربعاً، يستلمُ الحجرَ الأسود والرُّكن اليمانيَّ في كل طَوْفةٍ، ولا يمسُّ الركنين الآخرين اللذين في الحجر الأسود. وقال بينهما ك {ربَّنا آتِنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حَسَنةً وقِنا عذاب النار}. ثم صلى عند مقام إبراهيم عليه السلام ركعتين يقرأ فيهما مع أمِّ القرآن: (قُل يا أيُّها الكافرون. وقُل هو الله أحدٌ). جعل المقام بينه وبين الكعبة، وقرأ عليه السلام إذ أَتَى المقامَ، قبل أن يركع: {واتخذوا من مقامِ إبراهيم مصلَّى}. ثم رجع إلى الحجر الأسود فاستلمه، خرجَ إلى الصفا والمروة فقرأ: {إنَّ الصفا والمروة من شعائر الله}. أبدأ بما بدأ الله به، فطاف بين الصفا و المروة أيضاً سبعاً، راكباً على بعيره، يخبُّ ثلاثاً ويمشي أربعاً؛ إذا رَقِيَ على الصَّفا استقبل الكعبةَ ونظر إلى البيتِ وَوَحَّدَ الله وكبَّره وقال: (لا إله إلا اللهُ وحدَه، أنجز وعده، ونصر عبده،وهزم الأحزاب وحده)
ثم يدعو. ثم يفعلُ على المروة مثل ذلك.
فلما أكمل عليه السلام الطوافَ و السعي، أمَرَ كُلَّ من لا هديَ معه بالإحلال حتماً و لابد؛ قارناً كانَ أو مفرداً، وأن يحلُّوا الحلَّ كلَّه؛ من وَطْءِ النساء و الطيب و المخيط، وأن يبقوا [كذلك] إلى يوم التروية، وهو يوم منىً، فيُهلُّوا حينئذٍ بالحجِّ ويحرموا حين ذلك عند نهوضهم إلى منىً. وأمر من معه الهدي بالبقاء على إحرامهم، وقال لهم عليه السلام حينئذٍ، إذ تردَّدَ بعضهم: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهديَ حتى اشتريته، ولجعلتها عمرةً، ولأحللت كما أحللتم، ولكنِّي سقتْ الهديَ فلا أُحلُّ حتى أنحر الهديَ).
وكان أبو بكرٍ وعمرُ وطلحة و الزبير وعلي ورجالٌ من أهل الوفر ساقوا الهديَ فلم يُحلوا، وبقوا مُحرمين كما بقي عليه السلام محرماً، لأنه كان ساق الهدي مع نفسه.
وكان أمهاتُ المؤمنين لم يسُقن هدْياً فأحْلَلْنَ، وكنَّ قارنات حجٍّ وعمرةٍ، وكذلك فاطمة بنت النبي e ، وأسماء بنت أبي بكر أحلَّتا، حاشا عائشة رضي الله عنها فإنها من أجل حيضها لم تحلَّ كما ذكرنا.
وشكا عليٌّ فاطمةَ إلى النبي e إذْ أحلَّت فصدقها النبيُّ e في أنّه هو أمرها بذلك.
وحينئذٍ سأله سراقةُ بن مالك بن جُعْشُم الكِناني فقال: يا رسول الله!! متعتنا هذه؛ ألعامنا هذا، أم للأبد؟ فشبَّكَ عليه السلام بين أصابعه، وقال: ((بل لأبد الأبد ... دخلت العمرة ُ في الحجِّ إلى يوم القيامة)).
وأمرَ عليه السلام من جاء إلى الحجِّ على غير الطريق التي أتى عليه السلام عليها، ممن أهل بإهلال كإهلاله أن يثبتُوا على أحوالهم. فمن ساق معه الهدي لم يَحِلَّ، فكان علي في أهل هذه الصفة. ومن كان منهم لم يَسُق الهدي؛ يحل، فكان أبو موسى الأشعري من أهل هذه الصفة.
وأقام عليه السلام بمكةَ محرماً من أجل هديه الأحد المذكورة والأثنين والثلاثاء والأربعاء وليلة الخميس. ثم نهض e ضحوةَ يوم الخميس وهو يوم منىً،وهو يوم التروية، مع الناس إلى منىً. وفي ذلك الوقت أحرم بالحجِّ من الأبطح كلُّ من كان أحلَّ من الصحابة y بمنى الظهر من يوم الخميس المذكور، والعصر، والمغرب، و العشاء الآخرة. وبات بها ليلة الجمعة، وصلى بها الصبح من يوم الجمعة. ثم نهض عليه السلام بعد طلوع الشمس من يوم الجمعة المذكور، إلى عرفة. بعد أن أمر عليه السلام بأن تُضْرَبَ له قُبَّةٌ من شعر بنَمِرَةَ. فأتى عليه السلام عرفةَ،ونزل في قُبَّتِه التي ذكرنا.
حتى إذا زالت الشمس؛ أمر بناقتِه القصواء، فرحِّلَت له، ثم أتى بطن الوادي فخطب الناس على راحلته خطبةً ذكر فيها عليه السلام تحريم الدماء والأموال والأعراض، ووضع فيها أمور الجاهلية ودماءها.
¥