فهذا الحديث عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - في الصحيحين فيه أن تلك الأسئلة حصلت يوم النحر عن تقديم وتأخير في أعمال يوم النحر، ولهذا قال: (فما سُئل يومئذ) أي يوم النحر، وهذا يخالف ما أطلقه الكاتب في قوله: (وهكذا يحسن أن يكون شعار المفتي فيما لا نص فيه أو في جنس ما أفتى به النبي - صلى الله عليه وسلم -: افعل ولا حرج)!!
فركعتا الطواف محلهما بعد الطواف ولا يجوز تقديمهما عليه، وترتيب رمي الجمرات في أيام التشريق رمي الأولى، ثم الوسطى، ثم العقبة، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رماها في أيام التشريق الثلاثة على هذا الترتيب، ولا يقال لمن خالف هذا الترتيب فرمى العقبة، ثم الأولى، ثم الوسطى: لا حرج، بل عليه أن يعيد رمي الوسطى، ثم العقبة ما دام في أيام التشريق، وإن لم يُعد رميها فيها فعليه دم.
ولا عبرة بقول من قال بإجزاء رمي من خالف ترتيبه النبي - صلى الله عليه وسلم - لرمي الجمرات، لأنه - صلى الله عليه وسلم - رماها على هذا الترتيب في كل يوم من أيام التشريق الثلاثة، ولو كان غير هذا الترتيب سائغًا لفعله - صلى الله عليه وسلم - في يوم واحد من الأيام الثلاثة، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: (لتأخذوا مناسككم، فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه). رواه مسلم: (3137).
وهو مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: (صلّوا كما رأيتموني أصلي). رواه البخاري: (631).
وعلى هذا فإن المطلوب من المفتي أن يكون شعاره أن يقول للسائل: اتَّبع سنّة نبيك - صلى الله عليه وسلم - وافعل كما فعل، ولا يرد على ذلك أن جملة من أعمال الحج من المستحبات، كتقبيل الحجر، واستلامه، واستلام الركن اليماني، وصلاة ركعتين خلف المقام بعد الطواف وغير ذلك، لأن رمي الجمرات على ترتيبه هو المطابق لفعله - صلى الله عليه وسلم - المتكرر في أيام التشريق الثلاثة.
وتسميته هذه الكتابة باسم " افعل ولا حرج " واضح في توسعه في الاستدلال بحديث: (افعل ولا حرج)، وأنه يشمل الأخذ بما جاء في هذه الكتابة من أقوال مرجوحة أو شاذة.
زعمه أن السنّة المحمدية تجمع التيسيرات المتفرقة في كتب الفقه
الثالث: قال الكاتب: (ص 64): (والسنّة المحمدية تجمع التيسيرات التي تفرقت في كتب الفقه، فإن من العلماء من يأخذ بهذه الرخصة ولا يأخذ بالأخرى، ومنهم من يأخذ بغيرها ويدع هذه، بينما السنّة وسعت ذلك كله).
وأقول: إن هذا الكلام عجيب غريب، فإن السنّة لا تسع ما جاء عن الفقهاء من تيسير أو تشديد، بل إن ما جاء عن الفقهاء يُعرض على الكتاب والسنّة، فما وافقهما أُخذ به وعُوًّل عليه، وما خالفهما تُرك وأُعرضَ عنه، ومن أقوال الفقهاء ما يكون شاذًا غير مستند إلى دليل، بل يكون مبنيًا على الرأي المجرد، ولهذا يذكر العلماء في تراجم بعض الرواة أنه عيب عليه الإفتاء بالرأي، مثل عثمان بن مسلم البتي.
قال عنه الحافظ في " التقريب ": (عابوا عليه الإفتاء بالرأي).
قال الإمام الشافعي كما في كتاب " الروح " لابن القيم: (ص 395): (أجمع الناس على أن من استبانت له سنّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن له أن يدعها لقول أحد).
ومن كان من الفقهاء من أهل الاجتهاد فاجتهد للوصول إلى الحق فهو مأجور إن أصابه أو أخطأه مع تفاوت المصيب والمخطئ في الأجر، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر). رواه البخاري: (7352)، ومسلم: (1716) من حديث عمرو بن العاص - رضي الله عنهما -.
وهذا الحديث يدل على أنه ليس كل مجتهد مصيبًا الحق، بل يدل على إصابته الأجر، ولو كان كل مجتهد في اختلاف التضاد مصيبًا حقًا لم يكن لتقسيم المجتهدين في هذا الحديث إلى مصيب ومخطئ معنى، وعلى هذا فمن العجب أن يقال: إن السنة وسًعت تيسيرات الفقهاء مع ما عُلم من أقوالهم فيها الصواب والخطأ، وهي قاعدة من الكاتب ليس لها قاعدة، وهي من التجديد غير السديد.
والحمد لله رب العالمين.
وكتبه الشيخ العلامة: عبد المحسن بن حمد العباد البدر
نشر بصحيفة الوطن الكويتية
يوم الإثنين 16 ذي القعدة 1428 هـ
¥