تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

و زيادة في البيان أذكر باختصار المراحل التي مرّت بها النقود الورقية * 49، فقد شهد التطور التاريخي للنقود الورقية ثلاث مراحل رئيسية:

المرحلة الأولى:

كانت تلك النقود لا تتعدى كونها سندات أو صكوك إثبات لديون يتحملها مصدر هذه الأوراق، و هو الصائغ ـ صاحب أول فكرة لهذا الاستبدال ـ أو البنك المركزي بعد ذلك، فكانت تلك الأوراق لا تصدر منها ورقة إلا و هي ممثلة لمقدار ذهبي أو فضي بقيمتها التي تحملها، ضرورة أن تلك الورقة فرع عن هذا الدين الذهبي أو الفضي، فلا تصدر تلك الورقة إلا لإثبات ذلك الدين، فكانت الأوراق نائبة عن الحق الذهبي في التداول، و لذا فقد أطلق عليها (الأوراق النائبة) أي التي نابت عن الدين الذهبي أو الفضي، و كان حامل الورقة يسترد ما هو مثبت مقداره في الورقة من الحق الذهبي أو الفضي حين تسليمه إياها.

المرحلة الثانية:

النقود الورقية في هذه المرحلة تتطابق مع النقود الورقية في مرحلتها الأولى من كون هذه الأوراق ما هي إلا سندات أو صكوك لإثبات حق ذهبي أو فضي يملك بها حامل هذه الورقة استرداد ما تحمله من قيمة ذهبية أو فضية، إلا أنها ـ أي هذه النقود الورقية في مرحلتها الثانية ـ قد اختلفت عن شبيهتها في المرحلة الأولى بكونها غير مغطاة بغطاء ذهبي أو فضي كامل، بل كان غطاؤها الذهبي أو الفضي جزئيا، و تلك التغطية غير الكاملة جاءت نتيجة قيام البنوك المركزية بإصدار أوراق نقدية تفوق في قيمتها غطاءها الحقيقي من الذهب أو الفضة، و دفعهم لذلك تداول الناس و اطمئنانهم لتلك السندات، حتى كانوا لا يقبلون على استرداد الأصل الذهبي أو الفضي إلا بنسبة 10% فقط من مخزون هذه الديون، و هذا يعني أن 90% من تلك الديون الذهبية و الفضية يكون راكدا و لا يطلبه أصحابه؛ حيث قد اطمأنّوا إلى سنداتهم فاستمروا في تداولها و اطمأنوا من خلالها على حقوقهم الأصلية لدى مصدر هذه الأروراق، فقام المصدر بخلق سندات بنسبة الـ 90% من الحقوق المودعة، فيستغلونها و يقدمونها في القروض كحقوق خالصة لهم، وفي ذلك يقول أبو الأعلى المودودي:

" من الظاهر أن هذا خداع سافر لا شبهة فيه. فبهذا الخداع و التزوير خلق الصيارفة 90% من المال لأنفسهم بصورة عملة لم يكن لها شيء من الأساس أصلا و أصبحوا أصحابها بدأوا يفرضونها على المجتمع بصورة الديون و يتقاضون عليه الربا بسعر 10 أو 12% على كونهم ما كسبوا هذا المال بجدهم و جهدهم أو نالوا عليه حقوق الملكية بطريق مشروع، بل لم يكن هو مالا في حقيقة الأمر حتى يسوغ لهم بموجب أي مبدأ من مبادئ الأخلاق أو الاقتصاد و القانون أن يروجوه في السوق أداة للتبادل و ينالوا به المرافق و الخدمات من الجمهور " * 50

ويقول الدكتور هايل داوود:

" و قد ساعد على ظهور هذه الأوراق أن المصارف لاحظت أن نسبة قليلة ممن بيدهم الصكوك الورقية يعودون إليها لصرفها بالعملة المعدنية، فأدركت أنه يمكنها أن تصدر أوراقا من غير أن تكون مغطاة تماما بالذهب أو الفضة، بل بنسبة معينة تقدرها حسب خبرتها في كمية الذهب التي يطلي العملاء أو المودعون صرفها من البنوك، لذلك كانت تصدر نقودا ورقية مغطاة تغطية جزئية بالذهب أو الفضة " *51

و كما هو واضح فإن هذا التصرف لم يكن له أدنى تأثير على المودع؛ حيث قد كفل له المصرف استرداد أصل حقه الذهبي أو الفضي حين تقديمه هذه الأوراق، و عليه فلم يختلف الحكم الشرعي لهذه الأوراق عن سابقتها من النقود الورقية النائبة؛، حيث كانت هذه الأوراق ظلا للقيمة الحقيقية الذهبية أو الفضية، و لا يظهر الفرق ـ عمليا ـ بينها و بين سابقتها إلا إذا قام عدد من حاملي الأوراق بتقديمها لاسترجاع الحق الذهبي أو الفضي وكانت نسبتهم تفوق نسبة الاحتياطي من مخزون القيمة الحقيقية لدى المصارف، و على الرغم من ذلك فحكمها الشرعي لا يختلف كذلك عن الحكم الشرعي للأوراق النائبة؛ حيث إن المصرف ملزم في هذه الصورة كذلك بتوفير الحقوق الذهبية أو الفضية لحاملي الأوراق، و يتحمل تبعات تصرفه غير المشروع، فلا تأثير لحال التغطية الجزئية هنا على طبيعة هذه الأوراق، من حيث وجوب ضمان قيمها، وعليه فلم تختلف في حكمها عن الأوراق النائبة.

و تسمى تلك الأوراق في مرحلتها الثانية بـ (الأوراق الوثيقة) اعتبارا بالثقة التي تمتعت بها هذه الأوراق مما أكسبها قوة في الاعتماد و التداول.

المرحلة الثالثة:

و هذه المرحلة للنقود تبدأ من سنة 1931 م، أي عقيب الحرب العالمية الثانية، ومحور تميز تلك المرحلة هو إلغاء ميزة تغيير هذه النقود بأصلها الذهبي أو الفضي، و صارت هذه الأوراق إلزامية، أي أن السلطات ألزمت الناس التعامل بها، لذا سميت هذه الأوراق بـ (الأوراق الإلزامية)، فلا يحق قانونا لأي مواطن أن يرفض التعامل بها، و إلا تعرض للمساءلة القانونية. و ظل الدولار هو العملة

الوحيدة التي يمكن استبدالها بأصلها الذهبي؛ حيث كان حامل الدولارات يستبدل حوالي 30 جراما من الذهب بمبلغ 35 دولار فقط، و استمر هذا الحال إلى سنة 1971 م، و بعدها صار الدولار كغيره من النقود الورقية الإلزامية. * 52

و هذه النقود الورقية الإلزامية هي التي نعنيها بالبحث هنا؛ لكونها هي التي نتعامل بها في عصرنا، و هي محك الشبهات التي قصدنا إلى كشفها في هذا البحث.

فأي من المؤلفات التي كتبت قديما، لابد من مراعاة نوع النقود التي قصدها المؤلفون ببحثها؛ حيث يطلق لفظ (نقود) على جميعها، فربما قرأ الدارس أحام (النقود) لبعض الفقهاء ولم يرع الماهية المتوجهة من اللفظ بحسب زمان الفقيه المصدر للحكم أو المصنف له، فليتنبه لذلك.

و الله سبحانه أعلم

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

(49) تغير القيمة الشرائية للنقود الورقية ـ د. هايل عبد الحفيظ داوود ص 40 ـ 45 المعهد العالمي للفكر الإسلامي

(50) الربا ـ أبو الأعلى المودودي ـ ص 78 الدار السعودية للنشر و التوزيع

(51) تغير القيمة الشرائية للنقود الورقية ـ د. هايل عبد الحفيظ داوود ص 41 المعهد العالمي للفكر الإسلامي

(52) نفس المصدر ص 43 ـ 45

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير