المسألة، و هو منع أخذ الأجرة على تعليم القرآن، و على العبادات عموما. إلا أنه قد جاء زمان قالوا فيه بالجواز ـ أي جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن ـ فتغيرت الفتوى بذاك الأصل. لماذا؟
إن التغير الحادث في هذه الفتوى ليس سببه أن الفتوى من الأصل قد بنيت على معنى متغير كما سيأتي في فتوى الإمام بعدم اشتراط التزكية للشهود ظاهري العدالة، و إنما كان مناط التغير هو حدوث ضرورة صار معها الثبات على الحكم الأصلي منتجا لمفسدة، و هذا خلاف مقصود الشرع، الذي من المفترض أن يكون الحكم الفرعي مؤديا إليه، فتم العدول عن ذلك الحكم الفرعي الأصلي لدرء تلك المفسدة، فهنا يكون الحكم الاستثنائي فرعي و ليس أصليا.
فنجد في هذه الأمثلة أن تغير الحكم كان سببه [الضرورة]. احفظ هذا.
و ننتقل الآن إلى صورة ثانية. قال ابن عابدين رحمه الله تعالى:
(وكذا قالوا في قوله: كل حلّ عليّ حرام يقع به الطلاق للعرف. و قول محمد: لا يقع إلا بالنية أجاب به على عرف ديارهم، أما في عرف بلادنا فيريدون به تحريم المنكوحة، فيحمل عليه. نقله العلاّمة قاسم. و نقل عن مختارات النوازل أن عليه الفتوى لغلبة الاستعمال بالعرف، ثم قال: قلت: ومن الألفاظ المستعملة في هذا في مصرنا " الطلاق يلزمني " و " الحرام يلزمني " و " عليّ الطلاق " و " عليّ الحرام ". اهـ. و كذا مسألة دعوى الأب عدم تمليكه البنت الجهاز، فقد ينوها على العرف، مع أن القاعدة أن القول للمملّك في التمليك وعدمه.) * 56
ثم قال رحمه الله تعالى:
(و الشرب من السقا بلا بيان مقدار ما يشرب، و دخول الحمام بلا بيان مقدار المكث و مقدار ما يصب من الماء، و استقراض العجين و الخبز بلا وزن، وغير ذلك مما بني على العرف) * 57
إنك لو نظرت أخي القارئ في الكلام المنقول عن ابن عابدين آنفا تجد أن الفتوى قد بنيت على ما تعارف عليه أهل الزمان، ساء تغيرت الفتوى بتغير العرف، أولم تتغير لكونها جاءت على عرفهم من الأصل فلم تتغير لعدم تغير العرف، فالمقصود هنا هو عنصر ابتناء هذا الحكم على ذاك العرف، و هذا يلزم منه أنه إن اختلف العرف من قطر إلى آخر، أو من زمان إلى زمان، فإن الحكم يتغير تبعا له، و ذلك لكون العرف هو اللبنة لهذا الحكم. فيكون تغير الحكم هذا سببه [العرف]. احفظ هذا.
و ننتقل الآن إلى صورة ثالثة. قال ابن عابدين رحمه الله تعالى ضمن شرحه لأبيات بيّن فيها المرجحات التي تستعمل لدى وقوع التعارض بين تصحيحين:
(التاسع ـ أي من المرجحات ـ: ما إذا كان أوفق لعرفهم أو أسهل عليهم فهو أولى بالاعتماد عليه، و لذا أفتوا بقول الإمامين في مسألة تزكية الشهود و عدم القضاء بظاهر العدالة، لتغير أحوال الزمان، فإن الإمام كان في القرن الذي شهد له رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم بالخيرية بخلاف عصرهما، فإنه قد فشى فيه الكذب، فلابد فيه من التزكية.) *58
دقق أخي الكريم في المثال الذي أورده ابن عابدين رحمه الله تعالى في الكلام المنقول، فقد كان الإمام أبو حنيفة ـ رحمه الله تعالى ورضي عنه ـ لا يشترط تزكية الشهود لقبول شهادتهم، بل كان يكتفي بظاهر حالهم من الصلاح، بينما خالف في ذلك الإمامان أبو يوسف و محمد فاشترطا تزكية الشهود لقبول شهادتهم، و نحن نجد أن علماء المذهب قد أفتوا بقول الإمامين، فانظر هنا إلى السبب الذي حمل علماء المذهب على الأخذ بقول الإمامين، إنه تغير أحوال الناس كما ذكر ابن عابدين , و ماذا يعني ذلك؟
يعني أنه حين أفتى الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى ورضي عنه بعدم اشتراط تزكية الشهود، ما كان ذلك حكما توقيفيا أو تعبديا، بل قد بني هذا الحكم على أمر قابل للتغير، و هو (أخلاق الناس)، ووجهه أن أخلاق الناس في عهد رسول الله
¥