صلى الله تعالى عليه و سلم كان ظاهرها كباطنها، فكان من يظهر من حاله الصلاح يغلب على الظن توافق ظاهره مع باطنه، فيغلب على ظن الناس صلاحه، و ما كان يحق اتهامه، فعلى ذلك لو جاء الشاهد ليشهد، و كان ظاهره الصلاح، فلا حاجة إلى من يزكيه لتقبل شهادته، أما في وقت الإفتاء المذكور فقد عمّ الغش و الفساد و الكذب، وصار ظاهر الحال من الصلاح غير كاف في الدلالة على الباطن، و ما عاد يستبعد على ظاهر العدالة أن يكون كاذبا في باطنه، و عليه فقد راعى علماء المذهب هذه الحال، فانتقلوا إلى الأخذ بفتوى الإمامين.
لو دققت الفهم أخي الباحث في هذا المثال تجد أن الإمام أبا حنيفة رحمه الله تعالى ورضي عنه حين أصدر ذلك الحكم ـ و هو عدم اشتراط التزكية للشهود ـ لم يكن ذلك بناءا على ص قاطع في الحكم، ولم يكن الحكم عنده توقيفيا أو تعبديا ـ بل صدر الحكم منه بناءا على حال معينة، يدور الحكم معها وجودا و عدما.
نستطيع بعد هذا العرض أن نقول: إن تغير الحكم هنا كان متسببا عن قرينة من [قرائن الأحوال] ألا و هي فساد أهل الزمان. احفظ هذا.
و ثمّ قرائن أخرى للأحوال تتسبب في تغير الفتوى ـ سواء كان التغير في الفتوى من شخص إلى آخر أو من زمن إلى آخر ـ، فقرائن الأحوال تشمل عدة صور، منها الصورة التي ذكرنها من (فساد أهل الزمان)، و مها أن يكون تغير الفتوى هو الأنسب لحال المستفتي، فيتحقق فيه المقصد الشرعي و لو خالف الصورة المنصوص عليها.
مثاله ما ذكره ابن عابدين رحمه الله تعالى بقوله:
(و قال في فتح القدير في باب ما يوجب القضاء و الكفارة من كتاب الصوم عند قول الهداية: ولو أكل لحما بين أسنانه لم يفطر، و إن كان كثيرا يفطر، و قال زفر: يفطر في الوجهين، انتهى ما نصه. و التحقيق أن المفتي في الوقايع لابد له من ضرب اجتهاد و معرفة بأحوال الناس، و قد عرف أن الكفارة تفتقر إلى كمال الجناية، فينظر إلى صاحب الواقعة، إن كان مما يعاف طبعه ذلك أخذ بقول أبي يوسف، و إن كان ممن لا أثر لذلك عنده أخذ بقول زفر. انتهى) * 59
فانظر هنا كيف أن مقصد الشرع كان هو المعاقبة على ارتكاب كمال الجناية، لا على مجرد الصورة المذكورة، فابتني الحكم على كمال الجناية، و لم يبتن على مجرد أن يقوم الصائم بأكل اللحم الذي بين أسنانه، بل لما كانت هذه الصورة تختلف من شخص إلى آخر، فتكون في شخص قد مثلت كمال الجناية، و في شخص آخر لم تمثل ذلك، أقول: لما كان الأمر كذلك فقد دار الحكم وجودا و عدما مع المقصد دون نفس الصورة، فاختلف تحقق المقصد في الصورة وجودا و عدما، فتغيرت الفتوى لجواز تحقق الصورة دون كمال الجناية في بعض الأشخاص. و عليه فمراعاة المستفتي من حيث تحقق المقصد الشرعي من الحكم هو أحد (قرائن الأحوال) التي تتغير بسببها الفتوى. و عليه فكل قرينة حال تتسبب في تغير الفتوى لتحقيق المقصد الشرعي فهي تدخل تحت عنصر [قرائن الأحوال]. احفظ هذا.
بعد أن جمعنا هذه القرائن في عنصر واحد أسميناه [قرائن الأحوال] نستطيع الآن أن نقول: إن تغير الأحكام بتغير الزمان يتشكل في ثلاثة عناصر [الضرورة] [العرف] [قرائن الأحوال] و هذا التقسيم أراه جيدا يعمل على تقريب و تيسير فهم عوامل هذا الباب.
و قد نص على هذا التقسيم ابن عابدين رحمه الله تعالى فقال بعد أن ذكر كثيرا مما نقلنا بعضه:
(فهذه كلها فد تغيرت أحكامها بتغير الزمان إما للضرورة و إما للعرف و إما لقرائن الأحوال) * 60
و الدارس في الفروع الفقهية و المتأمل في تغيّر كثير من الأحكام بتغير الزمان يجد أن أسباب تغير الفتوى لنتخرج بحال عن هذه العناصر الثلاثة، و هذا التقسيم مجرد تقسيم نظري تنظيمي، فلا مشاحة فيه، إلا أنه ـ في نظري ـ الأقرب إلى تيسير فهم الأسباب المؤدية إلى تغير الأحكام بتغير الزمان. و الله تعالى أعلم.
اعلم أخي الدارس أن هذه العناصر الثلاثة ليست مقصودة لذاتها، بمعنى أنها لا تعتبر مغيرات للاحكام بذاتها، بل هي مجرد نوافذ إلى المقصود الأصلي من حدوث هذاالتغير في الأحكام.
و لكن السؤال هنا / ما هو هذا المقصود الأصلي و الذي تعد العناصر نوافذ عليه؟
¥