تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

تستلزم الكره و الشدة، و هو واضح تماما في أمر الجهاد، و إنما كانت الخيرية في حفظ الدين عن طريقه، و إن كان هو في نفسه شدة و كرها، إلا أنه مع تلك الشدة قد شرعه الله تعالى لتحقيق هذا المقصد و هو حفظ الدين، و لو كان المقصود هو التيسير بإطلاق لكان إيثار الوداعة و السلم و الرضا بالزرع و اتباع أذناب البقر هو الأولى من حيث الشرعية، حيث فيه تجنب إراقة الدماء و قطع الأعضاء، و هذا لا يقوله مسلم لما علم من الدين بالضرورة من فرضية الجهاد، و يحكم بكفر من أنكره.

كذلك تجد فقهاء الحنفية قد بلغ بهم تعزير المبتدع إلى القتل.

قال ابن عابدين رحمه الله تعالى:

" و في القهستاني: السياسة لا تختص بالزنا، بل تجوز في كل جناية، و الرأي فيها إلى الإمام على ما في الكافي؛ كقتل مبتدع يتوهم منه انتشار بدعته، و إن لم يحكم بكفره كما في التمهيد " * 62

فانظر هنا كيف كان العمل بمقتضى الضرورة يستلزم الأخذ بالأشد، و هو قتل المبتدع، و إن لم يحكم بكفره، وذلك إن خشي انتشار بدعته، و فيه ـ أي انتشار البدعة ـ ضرر الدين.

و كذلك تجد نفس الأمر في حفظ المال، حيث يصل تعزير السارق إلى القتل.

قال ابن عابدين رحمه الله تعالى:

(كما قالوا في اللوطي والسارق و الخناق: إذا تكرر منهم ذلك حل قتلهم سياسة) * 63

فانظر كيف أن حفظ الأموال استدعى أن يصل التعزير إلى القتل في بعض الحالات التي لا يدفع فيها الضرر إلا بذلك، و قد رغب في هذا التشديد تحقيقا لمقصد شرعي و هو حفظ الأموال.

فالحاصل أن تغير الأحكام بتغير الزمان يكون عبر قواعد تحقق المقصد الشرعي، و التيسير هو أحد المقاصد الشرعية لا كلها، و فيما مثلنا به بيانا لذلك، و اطلاعة سريعة على كلام ابن عابدين في حاشيته في أول كلامه عن (السياسة) و معناها لدى الفقهاء تكفي لبيان ذلك. و الله تعالى أعلم.

من هنا و من خلال ما ذكرنا نلحظ أمرا مهما جدا، و هذا الأمر يفصل إن شاء الله تعالى بين كلا الطرفين الغاليين ـ المفرط و المفرّط ـ في مفهوم هذه القاعدة من جهة، و بين الفهم الصحيح لهذه القاعدة من جهة أخرى.

هذا الأمر يتمثل في أن الزمان لا دخل له مباشرة في تغير الأحكام، بل إنه لا معنى أصلا لكلمة (الزمان) من حيث الوجود الحقيقي، فما هو إلا مجرد تعبير عرفي اصطلح الناس على استعماله، و بيان ذلك هو أننا نجد أن تغير الأحكام بتغير الزمان يكون بالضرورة أو العرف أو قرائن الأحوال كما مر إيضاحه، ففي حال الضرورة تجد أن الشرع قد اعتبرها في تغير الحكم، فيتغير الحكم بحدوث الضرورة التي تستدعي ذلك، ـ و هذا يكون وفق ضوابط يعرفها و يتقنها أهل الشأن و ليس كل من يدعي

ضرورة يؤمّن على كلامه ـ. و في حالة تغير الحكم بتغير العرف نجد أن الحكم المنقول إليه هو حكم شرعي أصالة و ابتداءا * 64 في المسألة، حيث إن الشرع لما أثبت الحكم على وفق عرف معيّن، لم يكن ذلك الحكم هنا لازما توقيفيا أو مرادا بذاته، بل المراد و المقصود هو تحقيق مقصد شرعي يعبر إليه في هذا الزمان أو المكان من خلال هذا العرف، فهو بمثابة نافذة للمقصد، فإذا حدث و أصبح هذا العرف غير نافذ إلى المقصد الشرعي، إما بعدم وجود هذا العرف أصلا، أو لتبدله بعرف آخر حسب الزمان أو المكان، فهنا لا يعتد بالحكم، إذ هو لم ينفذ إلى المقصد إلا من خلال العرف الذي بني عليه، فنحتاج إلى حكم شرعي * 65 مختلف يناسب المنفذ الجديد الذي هو العرق المخالف، فالغاية هي النفوذ إلى المقصد. و أما في حالة تغير الحكم بقرائن الأحوال، فالشرع إنما يكون راميا إلى تحقق المقصد الشرعي في الأفراد، فلما جدت قرائن كان تثبيت الحكم معها غير محقق للمقصد الشرعي الذي كان قد شرع الحكم سابقا من أجله، لزم تغير الحكم، و إحلال حكم يناسب تحقق المقصد الشرعي، و هنا أيضا تجد أن المراد حقيقة ليس هو نفس الحكم، و إنما هو تحقق المقصد الشرعي منه.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير