لو تأملت في كل هذه العلاقات التي سبقت، تجد أن العلاقة علاقة شرع بمكلف من حيث تحقيق مقصد شرعي، و لا دخل للزمان في ذلك، إلا أنه قد درج استعمال الناس للفظ (الزمان) على كل ما ذكرنا من الضرورة و العرف و قرائن الأحوال، و بهذا ندرك أن الزمان ما هو إلا (مظهر) للأحكام الشرعية، لا مثبت لها، فالزمان لا وجود له أصلا حقيقة، و إنما هو اصطلاح كما ذكرنا. فلو قيل: نعم .. نسلم أن الزمان يطلق على الضرورة و العرف و قرائن الأحوال، إلا أنّا نقول بكونها مغيرات للأحكام. قلنا: إن الضرورة لا تثبت الحكم و إنما هي علامة على حلول موضع الترخيص من الشارع، فهي ليست
دليلا شرعيا مستقلا مثبتا بذاته. و كذلك العرف لا يثبت الحكم، و إنما هو وسيلة ومظنة نفوذ الحكم إلى المقصد الشرعي، فهو منفذ إلى تحقيق المقصد بواسطة الحكم، فهو على ذلك ليس دليلا شرعيا مستقلا مثبتا بذاته. وكذلك قرائن الأحوال لا
تثبت الأحكام بذاتها وإنما هي علامات على تحقق أو عدم تحقق المقصد الشرعي الذي لأجله شرع الحكم. والله تعالى أعلم.
و مما ينبني على كون هذه العناصر أو الأقطاب الثلاثة التي تدور حولها صور تغير الفتوى مظهرات للأحكام أن الأخذ بها من أرباب المذاهب لا يعد مخالفة للمفتى به في مذهب من المذاهب الأربعة، إذا قد اعتبرت هذه المدارس الفقهية المقصد الشرعي من الحكم، و هذا تجده خلال دراستك في أصول و فروع أي مدرسة فقهية من مدارسنا الأربعة، و غليك مثالا على ذلك مما قاله ابن عابدين رحمه الله تعالى في المذهب الحنفي.
قال رحمه الله تعالى:
(فقد اتفقت النقول عن أئمتنا الثلاثة، أبي حنيفة و أبي يوسف و محمد، أن الاستئجار على الطاعات باطل، لكن جاء من بعدهم من المجتهدين الذين هم أهل التخريج و الترجيح، فأفتوا بصحته على تعليم القرآن للضرورة، فإنه كان للمعلمين عطايا من بيت المال و انقطعت، فلو لم يصح الاستئجار و أخذ الأجرة لضاع القرآن و فيه ضياع الدين، لاحتياج المعلمين إلى الاكتساب، و أفتى من بعدهم أيضا من أمثالهم بصحته على الأذان والإقامة، لأنهما من شعائر الدين، فصححوا الاستئجار عليهما
للضرورة أيضا، فهذا ما أفتى به المتأخرون عن أبي حنيفة و أصحابه، لعلمهم بأن أبا حنيفة و أصحابه لو كانوا في عصرهم لقالوا بذلك و رجعوا عن قولهم الأول) * 66
و قال:
(قلت لكن ربما عدلوا عما اتفق عليه أئمتنا لضرورة و نحوها كما مرّ في مسألة الاستئجار على تعليم القرآن و نحوه من الطاعات التي في ترك الاستئجار عليها ضياع الدين كما قررنا سابقا فح يجوز الإفتاء بخلاف قولهم كما نذكره قريبا عن الحاوي القدسي، و سيأتي بسطه أيضا آخر الشرح عند الكلام على العرف.
والحاصل أن ما خالف فيه الأصحاب إمامهم الأعظم، لا يخرج عن مذهبه إذا رجحه المشايخ المعتبرون، و كذا ما بناه المشايخ على العرف الحادث لتغير الزمان أو للضرورة و نحو ذلك لا يخرج عن مذهبه أيضا، لأن ما رجحوه لترجح دليله عندهم ماذون به من جهة الإمام، وكذا ما بنوه على تغير الزمان والضرورة، باعتبار أنه لو كان حيا لقال بما قالوه، لأن ما قاوله إنما هو مبني على قواعده أيضا، فهو مقتضى مذهبه، لكن ينبغي أن لا يقال: قال أبو حنيفة كذا. إلا فيما روي عنه صريحا، و إنما يقال: فيه مقتضى مذهب أبي حنيفة كذا. كما قلنا.) * 67
و في ختام هذه المقدمة التي هي في غاية من الأهمية نقول: إن تأمل محتوى هذه المقدمة من مادة و تنسيق، يترتب عليه إن شاء الله تعالى فهم صحيح لكثير من الإشكالات الواقعة في هذا الباب، و التي بسببها يقع كثير من الخلط و المغالطات في التعامل مع
الفروع الفقهية و المقاصد الشرعية. و الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
(53) مجموعة رسائل ابن عابدين 1/ 44 دار عالم الكتب. بيروت
(54) نفس المصدر 1/ 45
(55) نفس المصدر
(56) نفس المصدر
(57) نفس المصدر
(58) نفس المصدر 1/ 40
(59) نفس المصدر 1/ 46
(60) نفس المصدر 1/ 45
(61) سورة البقرة
(62) حاشية رد المحتار على الدر المختار ـ ابن عابدين ـ 4/ 15 مؤسسة مصطفى الحلبي. القاهرة
(63) نفس المصدر 4/ 16
(64) وإنما قلنا (ابتداءا) حتى لا يقول الملاحدة أو الجهال من أشباه العلمانيين بأننا قمنا باستبدال هذه الأحكام الأصلية التي ابتدأها الشرع نصا أو عملا فإن الحكم الذي قد يتوهمه هؤلاء مستحدثا هو في حقيقة أمره حكم مشروع ابتداءا إنما وجهنا الشرع إلى التوقف عنه إلى حين ظهور أمارات عليه، فهذه الأمارات يكون عندها بدء (عمل المكلف) بالحكم، لا بدء شرع الحكم، و عليه فيكون تغييرنا للأحكام المعمول بها مسبقا إنما هو من باب إحلال الحكم الشرعي للعمل به لظهور أماراته لا من باب استبدال الأحكام بأخرى غير مشروعة. تأمل
(65) و نقول (شرعي) لذات الغرض الذي من اجله قلنا (ابتداءا) فهو حكم منسوب إلى الشرع، و ما وقع من فقهاء الزمان تغيير و إنما هو إظهار و تبليغ حكم شرعي ظهرت أماراته العرفية. و الله تعالى الموفق
(66) مجموعة رسائل ابن عابدين 1/ 13 ـ 14 دار عالم الكتب. بيروت
(67) نفس المصدر 1/ 25
¥