و ثانيهما: أنها نصت في الطريق الأخرى: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغسل المني، ثم يخرج إلى الصلاة في ذلك الثوب، و أنا أنظر إلى أثر الغسل فيه ". لا يقال: كان غسله إياه كان مبالغة في النظافة، لأنا نقول: الظاهر من غسله للصلاة و انتظار جفافه و خروجه إليها، و في ثوبه بقع الماء، أن ذلك إنما كان لأجل نجاسته. و أيضا فإن مناسبة الغسل للنجاسة أصلية، إذ هي المأمور بغسلها. فحمل الغسل على قصد النجاسة أولى.اهـ
و قال الكاندهلوي في " أوجز المسالك " (1/ 531): و أنت تدري أن الفرك لو دل على الطهارة، لزم طهارة دم الحيض، و طهارة كل النجاسات التي اختلطت بالنعل و غيره ذلك؛ فإنه وقع الفرك في أمثال هذا كثير.اهـ
...
ـ[عبدالوهاب مهية]ــــــــ[16 - 08 - 09, 08:18 ص]ـ
و تعقب هؤلاء بعضُهم بكون الحديث فيه " ... فيصلي فيه ". وهذا التعقيب بالفاء ينفي احتمال تخلل الغسل بين الفرك و الصلاة. و أجاب العلامة العيني على هذا الإيراد فقال:
ثم إن هذا القائل استدل في رده على الطحاوي فيما ذكرناه بأن قال: "وهذا التعقيب بالفاء ينفي ... الخ ". وهذا استدلال فاسد، لأن كون الفاء للتعقيب لا ينفي احتمال تخلل الغسل بين الفرك و الصلاة، لأن أهل العربية قالوا: إن التعقيب في كل شيء بحسبه، ألا ترى أنه يقال: تزوج فلان فولد له، إذا لم يكن بينهما إلا مدة الحمل وهو مدة متطاولة. فيجوز على هذا أن يكون معنى قول عائشة: " لقد رأيتني أفركه من ثوب رسول الله "، أرادت به ثوب النوم ثم تغسله فيصلي فيه. و يجوز أن تكون الفاء بمعنى ثم كما في قوله تعالى: {ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا الغظام لحما} (المؤمنون 14). فالفاآت فيها بمعنى ثم لتراخى معطوفاتها. فإذا ثبت جواز التراخي في المعطوف، يجوز أن يتخلل بين المعطوف و المعطوف عليه مدة يجوز وقوع الغسل في تلك المدة. و يؤيد ما ذكرنا ما رواه البزار في (مسنده) و الطحاوي في (معاني الآثار) عن عائشة قالت:"كنت أفرك المني من ثوب رسول الله ثم يصلي فيه".اهـ
قلت: لكن يعكر على كل هذا الكلام أن حديث الفرك ورد في لفظٍ مصدرا بـ (إنما) التي للحصر. فقد روى أحمد و هناد و ابن أبي شيبة و علي بن محمد أربعتهم عن أبي معاوية عن الأعمش عن همام عن عائشة رضي الله عنها قالت:
«إنما كان يكفيه أن يفركه بأصابعه».
و تابع أبا معاوية عبدُ الله بن نمير، رواه عنه الحسن بن علي بن عفان في رواية أبي عوانة. لكنه في رواية ابن المنذر، رواها بلفظ ليس فيه حصر. و (الحسن) هذا صدوق؛ أي أنه خفيف الحفظ، و هذا ظاهر من حال اضطرابه في هذه الرواية.
فالأعمش انفرد بهذا اللفظ عن همام. إلا أن الحكم رواه عن همام بلفظ مقارب، وهو:
«لقد رأيتني وما أزيد على أن أفركه من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -».
رواه بهز و عفان و بشر بن عمر و آدم بن أبي إياس و وهب بن جرير و علي بن الجعد، ستتهم عن شعبة عن الحكم.
و خالفهم أحمد و حفص بن عمر فروياه بلفظ:
«لقد رأيتني وأنا أفركه من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -».
و خالفهم جميعا زيد بن أبي أنيسة فرواه عن الحكم بلفظ:
«إنما كان يكفيك أن تمسحه بإذخر أو تغسل المكان الذي أصابه فإن خفي عليك أن تدعه. لقد رأيتني أجد في ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الشيء منه بعد أيام فأحته».
قال الحافظ في " التقريب" (2118): ثقة، له أفراد.
و تابع الحكمَ في قوله: " و ما أزيد " حمادُ بن أبي سليمان من رواية المسعودي عنه. و المسعودي صدوق اختلط قبل موته.
و انفرد مهدي بن ميمون عن واصل الأحدب عن إبراهيم عن الأسود بلفظ:
«لقد رأيتني وإنه لفي ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فما أزيد على أن أفرك به هكذا فأدلكه».
الحاصل أن قول عاشة رضي الله عنها: " إنما يكفيه أن يفركه " يفيد حصر الإجزاء في الفرك وحده، و تفسره الرواية الأخرى التي فيها: " و ما أزيد على أن أفركه "، و هذا واضح في الإكتفاء بالفرك، و هو بظاهره معارض لقولها: " إنما كان يجزئك إن رأيته أن تغسل مكانه ". فلا بد أنها تريد من " الفرك " معنى آخر غير الذي هو ظاهر، خاصة و أنها جَمَعَتْهُ مع الغسل في الرواية السالفة.
...
¥