وعليه، فإن حفظ هذه الضروريات الخمس ليس مقصوراً كما يظنه بعض الناس على مجرد حمايتها، ودرء الخلل الواقع أو المتوقع فيها، وهو الذي تركز عليه الاتفاقيات والتشريعات البشرية، بل هناك حفظ قبل ذلك، وأهم من ذلك، وهو حفظها من جانب الوجود، وذلك بإيجاد هذه المصالح وإقامتها وتكميلها، وتثبيت قواعدها وأركانها.
وقد نبّه على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية، حيث ذكر أن بعض الناس يخص حفظ هذه المصالح، بحفظها من جانب العدم، أي: في دفع المضار عنها، وليس الأمر كذلك، فإن حفظها يكون "في جلب المنافع وفي دفع المضار، وما ذكروه من دفع المضار عن هذه الأمور الخمسة، فهو أحد القسمين" (18)
إذاً فمن ظن أن حفظ الحقوق والمصالح يتحقق بمجرد العقوبات الرادعة، والتدابير الاحترازية التي تحمي هذه الضروريات الخمس، وتصونها من أي اعتداء واقع أو متوقع عليها، فظنه خاطئ، ذلك أنه لابد قبل ذلك من جلب هذه المصالح الضرورية وتحقيقها وإيجادها وتوفيرها لكل الناس، حتى تحفظ حقوق الإنسان على أكمل وجه.
ولأجل هذا شرع الإسلام لكل واحدة من هذه الضروريات الخمس أحكاماً تكفل إيجاده وتكوينه، وأحكاماً تكفل حفظه وصيانته بعد أن يوجد، وبهذين النوعين من الأحكام تحفظ هذه المصالح والحقوق ويتحقق للناس ما يصبون إليه من الأمن والاستقرار.
رابعاً: أن المتأمل في النظريات والاتفاقيات الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان يجد أنها تركز على حفظ بعض هذه الضروريات، ولم تستوعبها كلها، ولم تتسع مدارك واضعيها لإدراك أهميتها كلها، وشدة الاضطرار إليها جميعها، فأكثر ما عنوا به وحاموا حوله في هذه النظريات والاتفاقيات، وسنّوا له القوانين والتشريعات مقصور في الغالب الأعم على حفظ النفس وحفظ المال فقط، أما حفظ الدين وحفظ العرض وحفظ العقل فلم يولوها عناية تذكر، بل ربما سنوا من القوانين والنظم ما يتنافى مع حفظها، بل ويضربها في صميمها، ويهدمها من أساسها، ويزعزع أركانها.
وذلك بسبب الصبغة المادية التي تحكم الفكر الغربي، فيتناسى الكثير من الجوانب الروحية والأخلاقية، ويركز فقط على الجوانب المادية، والغرائز البدنية، ولا أدل على ذلك من تنحية الدين وعزله عن الحياة، واتخاذ العلمانية ديناً ومنهجاً، فضربوا مصلحة الدين من أصلها وهدموها من أساسها، كما أنهم أباحوا الطعن في الذات الإلهية والرموز الدينية باسم حرية التعبير والحريات الشخصية، كما أنهم فرطوا كثيراً في حفظ الأنساب والأعراض، فأباحوا العلاقات الجنسية خارج نطاق الزواج، وأباحوا الزنا بالتراضي، وجوزوا الإجهاض وقطع النسل، وكرسوا الانفلات الأخلاقي، والشذوذ الجنسي، وأقروا الزواج المثلي، فتهدم كيان الأسرة، وانتشرت الخيانات الزوجية، وكثر اللقطاء، وتفاقمت مشكلة الاغتصاب، وحصلت القطيعة والعقوق بين الوالدين والأولاد، وبين القرابة والأرحام. كما أنهم فرطوا في حفظ العقول، بإباحة الخمور والمسكرات، وإباحة السحر والشعوذة والخرافات.
ومن يطلع على التقارير والإحصاءات المتعلقة بهذه الجرائم وآثارها المدمرة في الأمن والحريات والحقوق والقيم الإنسانية المعتبرة في الدول الغربية وأمثالها يدرك عظمة الشريعة الإسلامية، وكم خسر العالم من السعادة والأمن والطمأنينة، والتماسك الاجتماعي والترابط الأسري، والقيم الأخلاقية النبيلة، والمكاسب والفضائل العظيمة، بسبب حرمانهم من هذه الشريعة الغراء وما تضمنته أحكامها من الحكم والمقاصد والقيم الإنسانية الجليلة!!
إن الإنسان في ضرورة ماسة لحفظ دينه وعقله وعرضه، كاضطراره لحفظ نفسه وماله أو أشد، وما الضرر الحاصل لمن صُد عن دين الله الحق، أو انتُهك عرضه أو عقله بأقل من الضرر الحاصل لمن أكل ماله بالباطل، أو أزهقت روحه ظلماً وعدواناً!! وهذا وجه من وجوه كمال الشريعة وشمولها لكل ما يحتاجه البشر في معاشهم ومعادهم.
خامساً: من كمال الشريعة ومحاسنها العظيمة في هذا الباب: أنها في الوقت الذي تتفق فيه مع النظريات البشرية والقوانين الوضعية على أن حرية الإنسان مقيدة بعدم الإضرار بغيره، وعدم الاعتداء على حريات الآخرين (19)، فإن الشريعة الإسلامية قد قيدتها بقيد آخر لا يقل عنه أهمية، وهو أن حريته مقيدة بعدم الإضرار بنفسه أيضاً.
¥