وقد بلغ من تكريم الإسلام لهم أن الله تعالى حرم على المسلمين سب آلهة المشركين، لأن ذلك يجرح مشاعرهم فيحملهم على سب الله تبارك وتعالى، ويكون سبباً لعنادهم وإعراضهم عن الحق، قال الله تعالى:} ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كا نوا يعملون {قال الإمام القرطبي: "لا يحل لمسلم أن يسب صلبانهم، ولا دينهم، ولا كنائسهم، ولا يتعرض إلى ما يؤدي إلى ذلك، لأنه بمنزلة البعث على المعصية".
ومن تكريم الإسلام لهم ما ثبت في صحيح البخاري أن جنازة مرت بسهل بن حنيف وقيس بن سعد بن عباده رضي الله عنهم وهما قاعدان بالقادسية، فقاما، فقيل لهما: إنها من أهل الأرض، أي: أهل الذمة، فقالا: إن النبي صلى الله عليه وسلم مرت به جنازة، فقام، فقيل له: إنها جنازة يهودي! فقال: أليست نفساً؟ "
ومن ذلك النهي الشديد عن التمثيل بجثثهم في الحرب، والنهي عن سب أمواتهم، لأنهم أفضوا إلى ما قدموا، ولأن سب الأموات يؤذي الحي ولا يضر الميت. والأحاديث في هذا الباب كثيرة مشهورة.
ومن مظاهر التكريم الإلهي للإنسان تقرير المساواة بين البشر في أصل الخلقة، وأنه لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى، يقول الله تعالى:} يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم ... {، ويقول:} يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها .. {
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع: "يا أيها الناس! إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا عجمي على عربي، ولا أحمر على أسود و لا أسود على أحمر إلا بالتقوى، (إن أكرمكم عند الله أتقاكم)، ألا هل بلغت؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: فليبلغ الشاهد الغائب" (23)
لقد حظيت التعددية الثقافية المتنوعة التي يتكون منها المجتمع الإسلامي بأروع صور المساواة التي تستند إلى حقيقة بيولوجية أساسية يقررها القرآن الكريم؛ ألا وهي أن كل الشعوب والقبائل البشرية تنتمي إلى أب واحد وأم واحدة، وهم متساوون، لا فرق بينهم بسبب اللون أو الجنس أو المكانة الاجتماعية، وهذه المساواة تعد من الأصول التي يقوم عليها النظام الإسلامي، باعتبارها أصلاً من أصول العقيدة الإسلامية، تهدف إلى توثيق العلاقات بين أجيال البشر وإقامتها بين الأولين والآخرين، والأقربين والأبعدين، على الأخوة العامة؛ الأخوة التي لا تتعصب لوطن ولا تتحيز لجنس ولا تتنكر للون. واختلاف الألسنة والألوان، واختلاف الطبائع والأخلاق، واختلاف المواهب والاستعدادات تنوع لا يقتضي النزاع والشقاق بل يقتضي التعاون للنهوض بجميع التكاليف، والوفاء بجميع الحاجات، وليس للفروق الاجتماعية أي دور أو حساب في تحقق هذه المساواة. (24)
ولم تكن المساواة في الإسلام مبدأ نظرياً، وإنما كانت عملاً ملموساً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين، ومن بعدهم من أئمة المسلمين، وقصصهم في هذا الباب كثيرة مشهورة، فالناس سواسية أمام القضاء، لا فرق بين شريف ووضيع، وغني وفقير، ومسلم وغير مسلم.
وحدث أن ولداً لعمرو بن العاص والي مصر في زمن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنهما ـ ضرب قبطياً بالسوط لأنه سابقه فسبقه، فاشتكاه عند الخليفة عمر، فأرسل الخليفة إلى عمرو بن العاص وابنه، فلما حضرا عنده سأل القبطي: أهذا الذي ضربك؟ قال: نعم، ولما توعدته بأن أشكوه إليك قال: "اذهب فأنا ابن الأكرمين"، فنظر عمر إلى عمرو بن العاص وقال قولته المشهورة: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟ " ثم ناول المصري سوطاً وقال له: "اضرب ابن الأكرمين" (25).
وبهذه المساواة الفعلية تمكن الإسلام من القضاء على العنصرية البغيضة التي كانت تحكم المجتمع الجاهلي، والأمم الأخرى كالفرس والروم، فنقل مجتمع دولة الإسلام من ثقافة التمييز العنصري السابقة لظهوره؛ إلى مجتمع ينظر إلى الإنسان عامة بنظرة التقدير والاحترام، بغض النظر عن دينه أو لونه أو جنسه أو مكانته الاجتماعية.
¥