والعرب منذ أواخر العصر الجاهلي مهتمون بلغتهم معتزون بتراثها الأدبي، وقد قيل: ((الشعر ديوان العرب)) ولكن اهتمامهم واعتزازهم بها ازداد مع ظهور الإسلام لأن الله عز وجل اختارها لغة لدينه؛ قرآناً، وسنةً، وعبادةً، وتشريعاً .. وسيأتي تفصيل ذلك فيما بعد، ثم تضاعف الاهتمام والاعتزاز باللغة العربية وحفظ التراث اللغوي وتنقيته من الدخيل الأعجمي أثناء الفتوحات الإسلامية وبعدها. وعلى الرغم من أن الاستعمار الغربي كان يعمل لهدم اللغة العربية بحسبانها لسان الدين الإسلامي الذي ما يزال يحاول هدمه بالدعوة إلى استخدام اللهجات العامية لغة للتأليف والكتابة كما فعل اللورد ((دفرين)) السياسي البريطاني حين طالب بتدوين العلوم باللغة العامية المصرية. وكما حاول المستعمرون الفرنسيون في الجزائر، إلا أن هذه الدعوات والمحاولات الاستعمارية قَد باءت بالخيبة والفشل والخسران المبين.
وننتقل الآن إلى الحديث عن أثر الإسلام في انتشار اللغة العربية وسنروي أقوال بعض أئمة اللغة والأدب مختصرة عن حقيقة التلازم القوي بين انتشار الإسلام بالعربية، وانتشار العربية بالإسلام.
نبدأ بالأزهري الإمام اللغوي المشهور فهو يقول في مقدمة كتابه ((تهذيب اللغة)): "الحمد لله، على ما أسبغ علينا من نعمه الظاهرة والباطنة، وهدانا إلى تدبر تنزيله، والتفكر في آياته، والإيمان بمحكمه ومتشابهه، والبحث عن معانيه، والفحص عن اللغة العربية التي نزل بها الكتاب، والاهتداء بما شرع فيه، ودعا الخلق إليه وأوضح الصراط المستقيم به، وهداهم إلى ما فضلنا به على كثير من أهل هذا العصر في معرفة لغات العرب التي نزل بها القرآن ووردت سنة المصطفى النبي المرتضى عليه السلام".
هذا النص من مقدمة ((التهذيب)) لأحد أئمة اللغة الأعلام كاف لأن نتبين الباعث الأساسي على الاهتمام باللغة العربية، وتدوينها وتصحيحها ونشرها ألا وهو ((الإسلام)) قرآناً وسنةً وعبادةً وتشريعاً.
والقرآن نفسه، قبل كلام الأزهري وأمثاله من علماء اللغة، يؤكد حقيقة هذا الباعث الأساسي للاهتمام باللغة العربية والاعتزاز بتراثها العلمي والأدبي. فقد منّ الله تبارك وتعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى العرب الذين بعث فيهم ومنهم بقوله عز وجل: {إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون}. {لقد أنزلنا إليكم كتاباً فيه ذكركم أفلا تعقلون}. {وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون}. {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون} الخ ...
فنزول القرآن الكريم بالعربية – كما يتضح من آيات القرآن نفسه – دليل أهميتها وأفضليتها وباعث نهضتها، وصاحب الفضل الأكبر والأثر الأظهر في نشرها وخلودها. وهي – أيضاً – لأنها أغنى اللغات بياناً وأقواها برهاناً كانت ولا تزال عاملاً مساعداً لنشر الإسلام، والإقبال عليه. ويكفي تدليلاً على ذلك اختيار الله لها لساناً لدينه العام والأخير، وهو الإسلام وَمَنُّه بذلك على العرب خاصة والمسلمين عامة.
وقد رُوي عن الإمام الشافعي رضي الله عنه أنه قال: (لسان العرب أوسع الألسنة مذهباً، وأكثرها ألفاظاً، والعلم بها عند العرب كالعلم بالسنن عند أهل الفقه. (كما نقل عن الإمام ابن تيمية قوله:"إن اللغة العربية من الدين، ومعرفتها فرض واجب، فإن فهم الكتاب والسنة فرض، ولا يفهم إلا باللغة العربية، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب".
ويقول الأزهري في مقدمته: إن تعلّم العربية التي يتوصل بها إلى تعلم ما تجزئ به الصلاة من تنزيل وذكر فرض على عامة المسلمين. وإن على الخاصة التي تقوم بكفاية العامة فيما يحتاجون إليه لدينهم الاجتهاد في تعلم لسان العرب ولغاتها التي بها التوصل إلى معرفة ما في الكتاب (القرآن) ثم في السنة والآثار وأقاويل أهل التفسير من الصحابة والتابعين من الألفاظ الغريبة، فإن الجهل بذلك جهل بجملة علم الكتاب الخ.
ثم يذكر الأزهري أن من أسباب قيامه بتأليف كتابه: النصيحة الواجبة على أهل العلم لجماعة المسلمين، كما جاء بها التوجيه النبوي: (الدين النصيحة) أي أن دينه حَمَله على أن يضع كتابه في اللغة العربية لإفادة الناس ما يحتاجون إليه، والدفاع عن لغة العرب التي جاء بها القرآن، وجاءت بها السنن والآثار ..
¥