وعندما آوى مرة الى شجرة ليستريح في ظلها، أورقت وإخضرت وأزهرت. وهذه شجرة لا يستريح تحتها إلا نبي كما قال لميسرة نسطورا الراهب. كان ما رآه غير مألوفا لدى الناس. فازداد حرص ميسرة على سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام.
عادت القافلة وكان ما ربحته خديجة في تجارتها هذه تفوق أضعاف ما كانت تكسبه في المرات السابقة.
وأخبرها ميسرة بما حصل معه مع سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام أثناء الرحلة. فكانت تستمع بإنصات وتفكر. هنا استحضرت خديجة الرؤيا التي رأتها منذ فترة وهي: " شمس عظيمة تهبط من سماء مكة لتستقر في دارها، وتملأ جوانب الدار نورا وبهاء، ويفيض ذلك النور ليغمر كل ما حولها بضياء يبهر النفوس. ففسرها نوفل إبن عمها أن نور النبوة ستدخل دارها، ويفيض منها نور خاتم النبيين.
أحبت خديجة الإقتران بالرسول الكريم لما رأته من مكارم الأخلاق. وأحست بأنه نبي هذا الزمان لما سمعته من ورقة إبن نوفل عن صفاته ولما سمعته أيضا من ميسرة.
وكانت تعرف الرسول الكريم وعائلته. فأرسلت اليه نفيسة ورغبته بالزواج. ثم عرضت عليه ذات المال والجمال والشرف والكفاءة، فكان رده عليه الصلاة والسلام بأنه لا يملك من المال ليتزوج به. فقالت نفيسة اعتبر هذا الأمر قد تم حله. فوافق النبي الكريم وتم الزواج. وكانت خديجة رضي الله عنها في سن اكتمال الأمومة، وسيدنا محمد عليه الصلاة والسلام في سن اكتمال الشباب. كان الزواج في حقيقته زواج عقل راجح الى عقل راجح، وأدب جم وطيب خلق الى مثله.
كانت خديجة رضي الله عنها تهيء لرسول الله صلى الله عليه وسلم تهيء لرسول الله عليه الصلاة والسلام كل أسباب الراحة والنعيم. فكانت سخية بعواطفها وأحوالها وكشاعرها. وكانت تكرم من يحب زوجها إكراما يملأ النفس رضى وسرور.
وفي يوم أتت حليمة السعدية الى بيت خديجة. أتذكرون من هي؟ نعم، هي أولى مرضعاته. فتسارعت الذكريات الجميلة وأخذت تطفو على سطح ذهنه. فتذكر أيام طفولته، وأيام نشأته بين ذراعي حليمة وفي أحضانها. وأخذ يسألها عن حالها. فشكت اليه ما أصابها وقومها من قسوة الحياة والقحط الذي نزل ببني سعد. ففاض عليها من كرمه. وكذلك أكرمتها سيدتنا خديجة رضي الله عنها.
فرحت خديجة كثيرا عندما علمت أنها حامل وأنها ستضع أول مولودة لها. وأحست أن من إنجابها الذرية من محمد صلى الله عليه وسلم شيء رائع يثلج الصدر ويجعل النفس تشرق بآمال عظيمة.
فوضعت أول طفلة وسماها الحبيب زينب. كان يفرح كثيرا عندما يراها فيرفعها ويقبلها في حنان. كان سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام يتفرس في وجه إبنته زينب ويجد أنها تشبه خديجة. وهذا ما يزيده حبا لها. ثم جاءت رقية عندما كان عمر زينب حوالي السنتين. بعد ذلك جاءت أم كلثوم. وأخيرا، سيدة نساء العالمين أم الحسنين، فاطمة الزهراء. وأنجبت له أيضا القاسم وعبد الله. لكن الولدان لم يعيشا كثيرا. إذن، أنجبت خديجة من سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام أربع بنات وولدين.
في العام الذي سيسطع فيه نور الإسلام، حُبب الى سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام الخلاء والتأمل. فلاحظت أمنا خديجة سمات جديدة تعلو وجه النبي الكريم، وصمتا طويلا عميقا يلازمه، وتأملا شديدا يسرح به، وهو مع ذلك يزداد تألقا وصفاء ويشع نورا وبهاء.
فأحست بأن أمر النبوة قد حل أجله، فوفرت للنبي صلى الله عليه وسلم كل أسباب الصفاء، وما عكرت عليه أبدا خلواته وتأملاته. واذا ما انطلق النبي الكريم الى غار حراء للعبادة، ظلت عيناها ترعاه من بعيد. ولم تكتف بذلك، بل كانت ترسل وراءه من يحرسه ويرعاه دون أن يقتحم عليه خلوته، أو يعكر عليه صفاءه، أو يقطع صلته بربه في ذلك الغار.
فلما أصبح عمر سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام 40 عاما، أشرقت عليه أنوار النبوة، وأكرمه الله عز وجل برسالته، وبعثه الى خلقه.
كيف بدأ الوحي؟ هيا نكتشف معا.
أول ما بدىء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة. فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حُبب اليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء يتعبد الليالي حتى جاءه الحق وهو في غار حراء.
¥