لقد حصلت لي الغبطة والسرور بأن وقع الكتاب بين يدي، في هذه الطبعة القشيبة والحلة الفاخرة والصف البهي، مطرزة بأسماء علماء نحبهم ونجلهم في مقدمتهم أحد طلاب مؤلف الكتاب، الذي هو معدود في كبار علماء هذا الزمان والذي أعطي سعادة في كتبه قل أن حظي بها سواه، وهو العلامة الشيخ بكر بن عبدالله أبو زيد (القضاعي) (1)!، وكذلك الشيخ الفاضل خالد السبت، والشيخ المحقق محمد على العمران، وكلها أسماء معروفة لدينا نحبها ونحرص على الاستفادة مما لديها.
فجزا الله الجميع خير الجزاء.
ولما رأيت أنه من واجب أخيك المسلم عليك أن تنصحه إذا استنصحك، فما وسعني مع قلة باعي في هذا الباب وهذا الفن إلا أن أشارك بمالدي احتسابا للأجر، لاعلى سبيل القطع بصواب ما أبديه إنما هو الرأي الذي لايقوم على أساس من الهوى أو التشهي، إلا هوى العلم (وشهية) إقامة بنيانه، فالله المسؤل أن يوفقنا لطلب مرضاته والتطلع لجنانه.
لما نمي إلي خبر صدور هذه الطبعة وصرفها على نفقة أحد الكرام، سارعت للحصول على إصابة حظي منها، وقد حصل هذا بحمد الله وتوفيقه.
وكان حرصي مبني على أساس أن مثل هذا الجهد لابد أن يجعل من هذه الطبعة مرجعا فيما يستقبل من الزمان عند أهل الكتابة والتأليف في النقل والإحالة، وأن يكون فيها من التسديد في الصف والعرض أكثر من سائر الطبعات السابقة.
ولا أشك بأنها ستكون كذلك فقد جمعت جميع مؤلفات الشيخ في تسعة عشر مجلدة، وكان أكبر حسنة رأيتها أن أعيد صفها وطبعها لتكون سالمة من الأخطاء الطباعية لتخرج في ثوب قشيب يليق بها.
وكان لي بعد ذلك ما لاحظته بعين تلطف ومحبة للشيخ رحمه الله ولناشري علمه والقائمين على هذا المشروع منها مايلي:
أولا: كان بودي لو وضعت مقدمة حافلة في ترجمة الشيخ حتى تكون أم الباب، خاصة وأن عملهم في المشروع امتد لثلاثة أعوام، وقد تمنوا في مقدمة الكتاب كهذه الأمنية، إلا أنهم ذكروا أنه حيل بينها وبين ولادتها ما حرم الجميع منها، وكأني بهم كانوا يرغبون أن تكون بيد الشيخ بكر أبو زيد، لكونه من أعرف الناس بشيخه وبعلمه، وقد صدقوا (إلا أن الإتقان لا حدود له) (2) فليتهم أحالوا هذا العمل لكاتب مجد يكتب تحت نظر الشيخ وإشرافه، فكم أضاع حب الإتقان من أعمال لو خرجت للناس لسر بها الكثير.
ثانيا: ساءني يعلم الله ـ وقد أكون مخطئا ـ إلا أن هذا شعوري، أن قاموا بحذف تتمة الشيخ عطيه محمد سالم من صلب الكتاب، فليتهم لم يفعلوا إذ الشيخ رحمه الله وإن كان بين الكلامين كما بين الشيخ وتلميذه، إلا أن الشيخ عطيه رحمه الله كان بمثابة الابن البار بشيخه، ومن الصق الناس به وأعرفهم بعلمه ورأيه واختياره، فلم تكن تتمة متراخية في الزمن أو القدر، فليتهم راعوا هذا الأمر وتمحلوا لها الأسباب، فقد كان الشيخ عطيه يحمل من علم شيخه الشئ الكثير، فغفر الله لنا وله ولهم، وهداني للصواب إن كنت غير مصيب.
ثالثا: وهو عندي مربط الفرس، وأهم أمر تركوه وأجلوه كما سبق ووعدوا به وما فعلوه ... من وضع مسارد للكتاب، وفهارس شاملة لعلم الشيخ، التي هي من أهم ما كنت أحرص عليه، حتى يسهل معرفة اختيار الشيخ ورأيه واختياره في بعض مسائل العلم والتفسير والفقه واللغة وسائر أبواب العلم التي حوتها كتب الشيخ، لكنهم أجلوا هذا لوقت آخر ألله أعلم به، وحاشاهم عن مواعيد عرقوب.
كانت هذه الملاحظات أبرز ماعندي وإن كان هناك أمور يسيرة أخرى، أتركها لمن هو أحق بتسليط الضوء عليها وكشف لثامها وفض خاتمها مني.
وبعد هذا كله فقد أجمعت الحكماء على أن من عدت عيوبه فقد قارب الكمال، ورحم الله الشافعي عندما دفع بكتابه الأم لتلميذه الربيع، وأمره بأن يرويه للناس على خلل فيه، فأجابه التلميذ البار وطلب منه أن يصلح مواقع الخلل من الكتاب، فأجابه: بهيهات أبى الكمال إلا أن يكون لله ولكتابه.
فشكر الله للجميع جهدهم وبارك في جهودهم ونفعنا وإياهم بالعلم، ووفقنا لإتمام ما نعد به ولا يتيسر لنا سبيله.
* بقي أن يشار إلى أن رأي الشيخ رحمه الله أن لا تطبع كتبه ويتم تداولها تجاريا، إنما هو يكتب ويعلم وغيره يدفع الفلوس كما كان يقول رحمه الله، فالشيخ رحمه الله وبرد مضجعه لعزة العلم في صدره أراد أن يبقى كذلك يوم أن هان العلم عند الناس، فقد كان يعلم أنه سيصل كتابه لمن لا يستحقة إلا أنه سيصل كذلك إلا من يقدره قدره، وقد ذكر لي بعض الفضلاء أن هناك نقاش يدار من قبل دار عالم الفوائد مع ورثة الشيخ للسماح لهم بطبعه وعرضه تجاريا، وأرى أن من برهم بأبيهم عدم الموافقه، وظني بأن هذا لن يكون رأيي لو لم يصلني الكتاب!.
والحمد لله أن توقف رأي الشيخ عند هذا الحد ولم يأمر بحرق كتبه أو دفنها، كما سبق وصنع ببعض المنظومات العلمية التي أخفاها لعدم تحقق النية عند نظمها، رحمه الله ورحم الله عزة العلماء. (3)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الشيخ متعه الله بالصحة والعافية مغتبط بهذه الموافقة في التسمية مع أحد الأعلام الكبار ـ في اسمه واسم أبيه ـ وهي موافقة لطيفة بلا شك.
(2) ينظر ترجمة الشيخ طاهر الجزائري بقلم محمد كرد علي ـ رحمهما الله ـ في مقدمة كتابه (كنوز الأجداد).
(3) للاطلاع على هذا الباب ينظر تقييد العلم للخطيب البغدادي رحمه الله، وحرق الكتب في التراث العربي للحزيمي، ورحم الله سفيان الثوري القائل: من يزدد علما يزدد وجعا ولو لم أعلم لكان أيسر لحزني.
.
¥