تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وكذلك الأولى في كلِّ معنى أن يُبَلَّغ بأقصرِ عبارة، ولهذا كان كلام السلف فيه من الاختصار مَعَ كمال المعنى ما ليس في كلام المتأخرين مَعَ كثرة عباراتِهِم.

وهذا كما أنه في الألفاظ، كذلك في المعاني؛ فالقرآن لا يذكُر فيه مخاطبة كلِّ مُبْطِل بكل طريق وكل حجة، ولا ذكر كل الشُّبهات الواردة على الأذهان وجوابَها، فإن هذا لا حدَّ له ولا نهايةَ، بل ولا يَنضبط بضابطٍ، وإنما يذكر الحق والأدلة الموصلة إليه لذوي الفِطَرِ السليمة؛ لأن هذا هو الأصلُ في الخلق، ثم إذا اتفق مُعَاندٌ ومكابرٌ أو جاهل، كان مَنْ يخاطبه مخاطباً ومحاججاً له بحسب ما تقتضيه المصلحة، وقد يكون مقامهُ كمقام المترجِم لمعاني القرآن.

وما يُعرف بالمشاهدة، أو ما يُسلَّم دخوله تحت لفظ عام يشمل جملة من الأفراد؛ كالكواكب مثلاً معروفة بالمشاهدة ويدخل تحتَها ما لا يحصى من الأفراد، بيانُه حَشْوٌ، فببيان أن الشمس موجودةٌ والقمر موجود والكواكب موجودة، والإنسان يعلم هذا بالمشاهدة، هذا مما يُسْتقبَح ذكره، ويستثقلُهُ جمهورُ العقلاء، فضلاً عن البُلغاء؛ لأن هذا عندهم معلومٌ مستقرٌّ في عقولهم، لا يحتاجون فيه إلى خطابٍ وتفسيرِ عالمٍ من العلماء فضلاً عن كتاب مُنَزلٍ من السماء.

الأصل في القرآن أنه واضح عند السلف لا يحتاج إلى تفسير

وكثيرٌ من تفاسير المتأخرين التي يحفَلُ بها الخاصة، لو عُرِضتْ على العرب عند نزول القرآن لزَهدوا فيه، فكثيرٌ مما فيها يعدُّونه لُكْنةًَ وعَيَّاً لا يحتاج إليه، ويروْنه من باب إيضاح الواضحات.

وإذا قُدر أن بعض الناس فيهم احتاج إلى بيان وتوضيح ما عُرض عليه من القرآن، كان هذا من الأعراض النادرة التي لا تعرِض لجمهورهم، ولعُدَّ هذا مِن العَيِّ والقصور، وما تزال مثل هذه الأعراض تزداد حتى غلبت في الناس، فاستثقلوا القرآن بلا تفسيرٍ لألفاظه، كما استثقله الأوائل بالتفسير.

والتفسير ليس مقصوداً لذاته ..

وأساليب القرآن معلومةٌ لدى العرب الفصحاء غير خافيةٍ، وإن كان قد يخفى على بعضهم شيء منها؛ وذلك لغرابتها على مسمعه، وعدم اعتياده عليها في لغة قومه، ومن حولهم، كما خفي على ابن عباس بعض معاني مفرداته؛ كلفظ "فاطر"؛ فقد روى الطبري في "تفسيره"، وأبو عبيد عن مجاهد، قال: سمعت ابن عباس يقول: كنت لا أدري ما (فاطر السموات والأرض)؛ حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر، فقال أحدهما: لصاحبه: أنا فطرتها؛ يقول: أنا ابتدأتها.

ومثل ذلك أيضاً: ما أخرجه ابن جرير عن سعيد بن جُبير أنه سئل عن قوله: (وحنانا من لدنا) فقال: سألت عنها ابن عباس فلم يُجِب فيها شيئاً.

وأخرج من طريق عكرمة عن ابن عباس قال: لا والله ما أدري ما (وحناناً).

وهذا نادر فيهم، وإن جَهِلَه فردٌ منهم عَلِمَه جمهورهم.

بلاغة السلف سليقةً

وأساليب القرآن لما كانت على طريقتهم في كلامهم في يومهم وليلتهم، لم يَخْفَ عليهم المراد بها، فيعلمون من قوله تعالى: (ذُقْ إِنَّكَ أَنْت الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) أنّ هذا الخطابَ خطابُ امتهان وتهكَّم، وإن كانت ألفاظُه مما يُستعمل في المدح، عرفوا ذلك من السياق لا من اختصاص اللفظ.

ونظير هذه الآية وصف شعيب عليه الصلاة والسلام بالحلم والرشد من قومه المعاندين: (قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) [هود: 87] قد يتبادر إلى ذهن القارىء أن المراد بذلك: إنك حليم رشيد؛ والصواب لست بحليم ولا برشيد. قاله ابن عباس وغيره.

وهذا ونظائره لم يكن منهم بجُهدٍ ولا تكلُّفٍ؛ فهي لغتُهم التي يتحدثون بها، ولأنها كذلك لم ينصُّوا في كلِّ موضع على المقصود منه في القرآن، ولو قيل لأعجمي يعرف معاني الألفاظ: فسر الآية، لفسَّرها على غير وجهها؛ لأن الأمر مُتعلِّق بالسياق لا بذاتِ اللفظ.

ولما تقادم العهد، ودخلت العُجْمَة على العرب بالاختلاط بالعجم، ظهر لهذه الأساليب الفنُّ المدوَّنُ بعدُ باسم (علم البلاغة) لمعرفة طرائق العرب وتفنُّنها في أساليب خطابها، فوضعوا المصطلحات والقواعد لتقريب هذا العلم، لا لإتقانه؛ إذ لا يتقنُه إلا من تحدث بلغتهم وحَفِظ أشعارهم ومنثورهم، وهذا يعز وجوده في المتأخرين.

نشأة علم البلاغة

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير