السياسية والفنية والأدبية، انجازا عربيا محضا ساعد على ذلك ان حكاية الحيوان بطبيعتها حكاية عالمية مهاجرة، تنتمي الى طراز الحكاية العالمية الذائعة في تراث الشعوب وتشكل ارثا انسانيا مشتركا.
وتلاحظ الدراسات الحديثة في كليلة ودمنة، كما يقول الدكتور النجار الفروق التالية بين كليلة ودمنة العربية وبين الحكايات الهندية:
- ان الأبواب الأربعة للكتاب العربي، وكذلك اكثر من نصف الحكايات الواردة في النص العربي غير واردة في الأصول الهندية او السريانية وهذا يعني، بداهة، انها اضافات لابن المقفع.
- ان للكتاب العربي حكاية اطارية تضم داخلها جميع ابواب الكتاب وتربط بينها فنياً من اول الكتاب حتى نهايته، هي حكاية دبشليم المستبد وبيدبا الحكيم، كما هو الحال في الف ليلة وليلة حكاية شهريار وشهرزاد على حين ان الاصول الاخرى ليس فيها حكاية اطارية، وانما فيها مقدمة تشير الى حاكم يريد قبل ان يموت تعليم ابنائه الثلاثة من التدبير والسياسة، فيقترح احد الوزراء تأليف (البانجاتشترا) ويختفي الجميع بعد ذلك وتأتي ابواب الكتاب منفصلة لا رابط فنياً بينها.
- ان اسلوب القص في الكتاب العربي متميز باثارته السردية التي تمتلك ناصية المتلقي المروي له (صيغة السؤال الدائم، والجواب القصصي الحاضر من السارد) على نحو ما نرى في بنية الكتاب القصصية.
- ان للكتاب العربي اربعة اغراض ينص عليها مباشرة: تربوية وعقلية وجمالية وادبية، كما هو موجه اصلا للعامة او للشعب، على حين ان الكتاب الهندي له غرض تربوي او تعليمي، كما هو موجه الى النخبة.
- ان الحكايات الفرعية لكل باب من ابواب الكتابين، العربي والهندي، مختلفة عدداً، خوفا واضافة، او تقديما وتأخيرا لبعض الحكايات، أو تغييراً وتعديلا لسياقاتها الفنية والنفسية والثقافية (مجموع الحكايات الفرعية في النص العربي 44حكاية، وفي النص الهندي 32).
- ان ابن المقفع اذا كان قد افاد من بعض حكايات النص الهندي، فإنه قام بتأويلها واعادة تفسيرها، وهذه اضافة اخرى لصالح ابن المقفع ومن هنا كان صاحب الفهرست موفقا اكثر من غيره حين قال ان ابن المقفع (فسّر) الكتاب، ولم يقل (ترجم) ويقصد بإعادة التفسير، او الخلق، في علم الفولكلور، اضفاء معان جديدة على قيم قديمة يحملها القصص المنقول او الموروث، وهي عملية تقتضي، هنا، ان يقوم ابن المقفع، فنياً، بإعادة بناء النص الأدبي، واخضاعه سوسيولوجيا للبيئة الجديدة، حتى يكون المتلقي مشدودا الى الابداع الجديد، والا فشلت العملية السردية برمتها.
هذا بالإضافة الى ان كتاب كليلة ودمنة في صياغته العربية قد نجح، دون الكتاب الهندي، في الارتقاء بفن القصة على لسان الحيوان من مستوى الأدب الشفاهي الشعبي، ومن المستوى الديني الوعظي، الى مستوى الادب الرسمي، ادب الصفوة، اي الادب الكتابي لأول مرة في الآداب القديمة. فقد عرفته الآداب الأوروبية فناً أدبياً رفيعاً بعد ترجمة كليلة ودمنة، وتوالي ترجماتها الى اللغات العالمية منذ القرن الحادي عشر الميلادي. وكذلك خرجت من عباءة كليلة ودمنة، على المستوى العربي، فنون رسمية اخرى للصفوة مثل المطولات الشعرية وقصص الحيوان الطويلة، الفلسفية والسياسية والصوفية والاجتماعية مثل رسالة تراعي الحيوان على الانسان لاخوان الصفا، ورسالة الصاهل والشاحج لأبي العلاء المعري، وهي فروق جد فارقة تحسم القضية لصالح ابن المقنع مؤلفا، وتؤكد عروبة الكتاب التي آن ان نقرها بصورة نهائية.
ويتساءل الدكتور النجار بعد ذلك: أليس هذا صنيع الشاعر الفرنسي لافونتين، اكبر شعراء فرنسا واوروبا في الافادة من قصص الحيوان العالمية، بما في ذلك كليلة ودمنة، وباعترافه هو، ومع ذلك لم يقل احد ان لافونتين مترجم وحسب؟ وإذا كان كثير من المستشرقين يستكثرون على الحضارة العربية الإسلامية ان تبدع مثل هذا السفر الخالد، كليلة ودمنة، وكذلك قرينه كتاب الف ليلة وليلة، وينسبونها الى الآداب الهندية والفارسية واليونانية، وان دور العرب لا يتعدى دور الناقل، فإنني لا ادري لماذا يتبعهم، بحسن نية او بسوء نية، كثير من الدارسين العرب حتى الآن، فيرددون ما يرددون، منكرين حتى ابن المقفع كرائد ومبدع ادبي لهذا الفن القصصي الكتابي عربياً وعالمياً.
¥