وإذا كان باب الاشتغال يقوم في جوهره عند النحاة على عدم جواز إعمال الفعل في الاسم الظاهر وضميره معاً فإن الباب يواجه اعتراضاً في أصله وذلك عند كثير من المحدثين الرافضين لفكرة العامل، وذلك انطلاقاً من أن العوامل في النحو تختلف عن مثيلاتها من العوامل الأخرى فهي ليست طبيعية وإنما هي من صنع المتكلم ويمكن له أن يغفلها ولكنه يكون قد خالف القواعد النحوية، فقاعدة النحاة أن لكل منصوب ناصباً هي التي حملتهم على ذلك التقدير غير اللازم (26).
وقد كان قرار مجمع اللغة العربية بالقاهرة عند مناقشته باب الاشتغال أنه "يجوز رفع المشغول عنه ونصبه ولا داعي لذكر حالات الوجوب أو الترجيح، وتردَ أمثلة هذه الحالات إلى أبوابها من كتب النحو" (27)
وهكذا يمكن أن نرى النحاة قد لجأوا إلى تقدير محذوف اتقاء للتصادم بين هذه الأمثلة وقواعدهم من ناحية، ومنعاً للتعارض بينها وبين ما يعتنقه النحاة من وجهات عقدية.
أما السبب في ظهور قضية التنازع فربما يعود إلى من أوضعه النحاة، وهو عدم جواز اجتماع عاملين على معمول واحد، وذلك مثل "قام وقعد علي" فلا يجوز أن يكون "علي" فاعلاً لكل من "قام" و"قعد" معاُ.
وقد تطورت المسألة من هذه البداية البسيطة إلى التعقيد والتركيب فأخذوا يتصورون ويفترضون أشكالاً مختلفة ومتعددة لما يمكن أن تأتي عليه ظاهرة التنازع، وبالغوا في ذلك مبالغة خرجت بالباب إلى لون متعسف من الافتراضات غير الواقعية، ولم يكتفوا بما ورد من أنماط في الواقع اللغوي بل أخذوا في اختراع أنماط من مخيلتهم، فمن الصور المرفوضة في باب التنازع صور الأفعال المتعدية إلى اثنين كظن، والأفعال المتعدية إلى ثلاث كأعلم حيث لم يرد فيها استعمال عن العرب. ولعل المسألة ترتبط أيضاً بأمور عقدية وفقهية مؤداها أنه لابد من موجد واحد للظاهرة حتى لا يجتمع مؤثران على أثر واحد (28) وتتعارض صورة مثل "قام وقعد علي"مع هذه القاعدة، وذلك لاجتماع الفعلين على فاعل واحد ومن هنا لجأ النحاة إلى وضع باب التنازع وما يتصل به من قواعد الإضمار في أحد الفعلين حتى ينسجم النمط مع القاعدة، ويظل للمعمول عامل واحد يعمل فيه.
ويرى د. شوقي ضيف أن أغلب صور هذا الباب من افتراضات النحاة ويقترح عدم الإبقاء عليه في درس النحو، والاكتفاء بالصيغ الواردة في الاستعمال، فيعمل الفعل الثاني ويحذف من الفعل الأول لدلالة الثاني عليه ولدلالة السياق، وقد ذهب مجمع اللغة العربية بالقاهرة إلى حذف باب التنازع والاكتفاء بالصور التي توارد بها الاستعمال في الفصحى. (29) وقد كان المفروض في النحاة أن يقتصروا على رصد ما هو واقع وحقيقي، ولا يفترضون أشكالاً للعبارات من غير أن يكون لها أساس من الاستعمال مما دعاهم إلى التقدير والتأويل.
وبعد أن استعرضنا آراء النحاة في بابي الاشتغال والتنازع نستطيع أن نرصد القواعد التي أقام عليها النحاة هذين البابين والتي أدت في معظمها إلى ذلك التعقيد فيهما:
1. قضية العامل وأثرها وقد أشرنا إليها سابقاً وما ترتب على القول بها من افتراض صور ليس لها نصيب من الواقع.
2. ضرورة الحفاظ على الشكل النمطي للجملة، ومن ثم وجوب الإضمار في باب الاشتغال.
3. اختصاص بعض الأدوات بالدخول على الأفعال، وما يترتب على ذلك عندما تدخل هذه الأدوات على الأسماء، وغلبة دخول بعض الأدوات الأخرى على الفعل، وإضافة بعض الأحكام الإعرابية الجديدة نتيجة دخول هذه الأدوات على الأسماء.
4. إجراء القياس على كل ظاهرة، فيجرون أحكام نصب المشغول عنه على الاسم المرفوع، وإجراء أحكام التنازع في المتعدي إلى واحد، على المتعدي إلى اثنين وكذلك المتعدي إلى ثلاثة.
5. تجنب الإضمار قبل الذكر، ولذلك ذهب جمهورهم إلى ضرورة إعمال الثاني في باب التنازع.
6. تجنب حذف الفاعل، ولذلك ذهبوا إلى ضرورة إضمار المرفوع في العامل الأول عند إهماله.
7. جواز الاستغناء الفضلة وإهمالها، ولذلك ذهبوا إلى عدم وجوب إضمار المنصوب والمجرور في العامل الأول عند إهماله.
8. انتباه النحاة إلى التفرقة بين ما أطلقوا علية (تفسير المعنى) و (تفسير الإعراب)، وإدراكهم أن تفسير الإعراب ربما يأتي مخالفا للمعنى وربما مناقضا له، ولكن القاعدة عندهم أولى بالاتباع.
¥