...... والتحقيق في هذا الباب أن العيان أتم وأكمل والسماع أعم وأشمل، فيمكن أن يعلم بالسماع والخبر أضعاف ما يمكن علمه بالعيان والبصر أضعافا مضاعفة، ولهذا كان الغيب كله إنما يعلم بالسماع والخبر، ثم يصير المغيب شهادة، والمخبَر عنه معاينا، وعلم اليقين عين اليقين.
325
والمقصود هنا أن الخبر أيضا لا يفيد إلا مع الحس أو العقل
329
ولهذا يقال: العلم ما قام عليه الدليل، والنافع منه ما جاء به الرسول
331
[الخطابي] والأصل في مذاهب الناس كلهم ثلاث مقالات: القول بالحس حسبُ وهو مذهب الدهرية، فإنهم قالوا بما يدركه الحس، ولم يقولوا بمعقول ولا خبر، وقال قوم بالحس والمعقول حسب ولم يقولوا بالخبر، وهو مذهب الفلاسفة، لأنهم لا يثبتون / النبوة، وقال أهل المقالة الثالثة بالحس والنظر والأثر وهم جماعة المسلمين وهو قول علمائنا وبه نقول
335
وأما ما ذكره الخطابي من القياس والاعتبار في الأحكام الشرعية وأن الكتاب والسنة لم يستوفيا بيان جميع ما يحتاج إليه الناس نصا، فهذا كلام في القياس العملي الشرعي وهو مبسوط في موضعه.
والناس في هذا بين إفراط وتفريط، كما هم كذلك في القياس العقلي الخبري، فطائفة تزعم أن أكثر الحوادث لا تتناولها النصوص، بل إنما تعلم بالقياس، وطائفة بآرائهم يزعمون أن القياس كله باطل حتى يردون الاستدلال المسمى بتنقيح المناط ويردون قياس الأولى، وفحوى الخطاب والعلة المنصوصة ويرجعون إلى العموم واستصحاب الحال.
وكل من الطائفتين مخطئة غالطة، فإن الطائفة الأولى بخست الكتاب والسنة حقهما، وقصرت في معرفتهما وفهمهما، واعتصمت بأنواع من الأقيسة الطردية التي لا تغني من الحق شيئا أو بتقليد قول من لا تعرف حجة قائله.
وكثيرا ما تجد هؤلاء إذا فتشت حجتهم إنما هي مجرد دعوى بأن يظن أحدهم أن الحكم الثابت في الأصل معلق بالوصف المشترك، من غير دليل يدله على ذلك، بل بمجرد اشتباه قام في نفسه، / أو بمجرد استحسان ورأي ظن به أن مثل ذلك الحكم ينبغي تعليقه بذلك الوصف، وأحدهم يبني الباب على مثل هذه القواعد، التي متى حوقق عليها سقط بناؤه، وربما تمسكوا من الآثار الضعيفة بما يعلم أهل المعرفة بالأثر أنه من الموضوع المكذوب فضلا عن أن يكون من كلام المعصوم، وقد يتمسكون بما يظهر لهم من ألفاظ المعصوم ولا تكون دالة على ما فهموه.
وأما الطائفة الثانية فتعتصم من استصحاب الحال ونفي الحكم لعدم دليله في زعم أحدهم مع ظهور الأدلة الشرعية بما يبين به فساد قولها ويفرق بين المتماثلين تفريقا لا يأتي به عاقل، فضلا عن نبي معصوم، وتجمد على ما تراه ظاهر النص مع خطئها في فهم النص ومراد قائله، وتسلب الشريعة حِكَمها ومحاسنها ومعانيها وتضيف إلى الله ورسوله من التحكم المنافي للعدل والإحسان ما يجب أن ينزه عنه الملك العادل والرجل العاقل.
والناس كلهم متفقون على الاجتهاد والتفقه، الذي يحتاج فيه إلى إدخال القضايا المعينة تحت الأحكام الكلية العامة، التي نطق بها الكتاب والسنة، وهذا هو الذي يسمَّى تحقيق المناط، كالاجتهاد في تعيين القبلة عند الاشتباه والاجتهاد في عدل الشخص المعين والنفقة بالمعروف للمرأة المعينة والمثل لنوع الصيد أو للصيد المعين، والمثل الواجب في إتلاف المال المعين، وصلة الرحم الواجبة ودخول أنواع / من المسكرات في اسم الخمر وأنواع من المعاملات في اسم الربا والميسر، وأمثال ذلك مما فيه إدخال أعيان تحت نوع وإدخال نوع خاص تحت نوع أعم منه.
فهذا الاجتهاد مما اتفق عليه العلماء وهو ضروري في كل شريعة
338
ونفاة القياس المعروفون بالسنة لا ينازعون في العموم وإن سماه المسمي قياسا كليا بل هو عمدتهم وعصمتهم هو واستصحاب الحال، فهذا نوع. ومن نازع في القياس والعموم جميعا كما فعل ذلك من فعله من الرافضة فهؤلاء سدوا على أنفسهم طريق معرفة الأحكام، فلهذا يحتجون بما يزعمون أنه قول المعصوم، ومن الناس من يظن أن العلة المنصوصة هي المسماة بتحقيق المناط وهي داخلة فيه وليس كذلك فإن هذه فيها نزاع.
339
¥