ولكن سلوك هؤلاء [الباقلاني ومن وافقه] لهذه الطرق البعيدة التي فيها شبهة وطول دون / الطرق القريبة التي هي أقرب وأقطع، قد يكون لكون المناظر لهم لا يسلم صحة الطرق القريبة الواضحة القطعية، إما عنادا منه وإما لشبهة عرضت له أفسدت عقله وفطرته، مثلما يعرض كثيرا لهؤلاء فيحتاج مع من يكون كذلك إلى أن يعدل معه إلى طريق طويلة دقيقة يسلم مقدماتها مقدمة مقدمة، إلى أن تلزمه النتيجة بغير اختياره، وإن كانت المقدمات التي مانعها أبين وأقطع من المقدمات التي سلمها، لكن هذا يحتاج إليه كثيرا في مخاطبة الخلق، فكم من شخص لا يقبل شهادة العدول الذين لا يشك في صدقهم ويقبل شهادة من هو دونهم إما لجهله وإما لظلمه، وكذلك كم من الخلق من يرد أخبارا متواترة مستفيضة، ويقبل خبر من يحسن به الظن، لاعتقاده أنه لا يكذب، وكم من الناس من يرد ما يعلم بالدلائل السمعية والعقلية، ويقبله إذا رأى مناما يدل على ثبوته أو قاله من يحسن به الظن لثقة نفسه بهذا أكثر من هذا، وكم ممن يرد نصوص الكتاب والسنة حتى يقول ما يوافقها شيخه أو إمامه فيقبلها حينئذ، لكون نفسه اعتادت قبول ما يقوله ذلك المعظم عنده، ولم يعتد تلقي العلم من الكتاب والسنة، ومثل هذا كثير.
فكذلك كثير من الناس قد يألف نوعا من النظر والاستدلال، فإذا أتاه العلم على ذلك الوجه قبله، وإذا أتاه على غير ذلك الوجه لم / يقبله، وإن كان الوجه الثاني أصح وأقرب، كمن تعود أن يحج من طريق بعيدة معطشة مخوفة وهناك طرق أقرب منها آمنة وفيها الماء لكن لما لم يعتدها نفرت نفسه عن سلوكها.
وكذلك الأدلة التي فيها دقة وغموض وخفاء، قد ينتفع بها من تعودت نفسه الفكرة في الأمور الدقيقة، ومن يكون تلقيه للعلم عن الطرق الخفية التي لا يفهمها أكثر الناس أحب إليه من تلقيه له من الطرق الواضحة التي يشركه فيها الجمهور، ومثل هذا موجود في المطاعم والمشارب والملابس والعادات لما في النفوس من حب الرياسة.
88
والقرآن لا يذكر فيه مخاطبة كل مبطل بكل طريق، ولا ذكر كل ما يخطر بالبال من الشبهات وجوابها، فإن هذا لا نهاية له ولا ينضبط، وإنما يذكر الحق والأدلة الموصلة إليه لذوي الفطر السليمة، ثم إذا اتفق معاند أو جاهل كان من يخاطبه / من المسلمين، مخاطبا له بحسب ما تقتضيه المصلحة كما يحتاج إلى الترجمة أحيانا وكما قد يستدل على أهل الكتاب بما يوجد عندهم من التوراة والإنجيل.
91
فالقاضي أبو بكر وإن كان أقرب إلى صريح المعقول وصحيح المنقول في أصول الدين بخلاف أصول الفقه من أبي المعالي وأتباعه، والأشعري أقرب إلى ذلك من القاضي أبي بكر، وأبو محمد بن كلاب أقرب إلى ذلك من أبي الحسن، والسلف والأئمة أقرب إلى ذلك من ابن كلاب، فكل من كان إلى الرسول أقرب كان أولى بصريح المعقول وصحيح المنقول، لأن كلام المعصوم هو الحق الذي لا باطل فيه، وهو المبلغ عن الله كلامه، وخير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة.
103
والشيء قد يكون ضروريا مع إمكان إقامة الأدلة النظرية عليه، فلا منافاة بين كونه ضروريا مستقرا في الفطر وبين إمكان إقامة الدليل عليه.
108
ولكن لازم المذهب ليس بمذهب، وليس كل من قال قولا التزم لوازمه التي صرح بفسادها، بل قد يتفق العقلاء على مقدمة وإن تناقض بعضهم في لوازمها، ولهذا كانت الشبه الواردة على قول القائل: إن التخصيص الحادث لا بد له من محدِث مخصص، أو أن الممكن لا بد له من مرجح أعظم مما يرد على أن المحدَث لا بد له من محدث.
165
فلا حاجة إلى مؤاخذة لفظية؛ وهو كون العلة لفظا مشتركا، فإن هذا من باب الإعنات في الخطاب والخروج عن المقصود.
والاستفسار مع ظهور المقصود نوع من اللدد في الكلام وأبغض الرجال إلى الله الألد الخصم.
174
تقسيم الوجود إلى ما له علة وإلى ما لا علة له فهذا تقسيم دائر بين النفي والإثبات لا يمكن المنازعة فيه، كما إذا قيل: الموجود ينقسم إلى ما يقوم بنفسه وإلى ما لا يقوم بنفسه، وإلى ما هو موجود بنفسه وما ليس موجودا بنفسه، ونحو ذلك من التقسيمات الدائرة بين النفي والإثبات، فهذا تقسيم حاصر؛ إذ لا واسطة بين النفي والإثبات وهما النقيضان والنقيضان كما أنهما لا يجتمعان فلا يرتفعان أيضا.
180
¥