وأخيرا، فإن هذا القول المحدث - أعني تفضيل القبر النبوي على الكعبة والعرش والكرسي - قد تبناه ونصره بعض دعاة الفتنة والشرك في القرون المتأخرة، وقد رددت عليهم في كتابي " جلاء البصائر "، وإليك نص ما كتبته هناك:
ومن المسائل الغريبة التي أورد المخالفون، زعمهم: أن القبر النبوي أفضل من العرش والكرسي ومن جنة عدن، ومن سائر ما في الكون.
وزعمهم: أن المسجد النبوي ما شرُف ولا عظم إلا من أجل القبر. فقد جاء في قصيدة الهيتمي التي ساقها المخالف في " الذخائر".
وبقعته التي ضمته حلقاً
وأفضل من سموات وأرض
ومن عرش ومن جنات عدن
رياض من جنان تستطيل
وأملاك بأفلاك تجول
وفردوس بها خير جزيل
ثم نقل كلام محمد حبيب الشنقيطي في شرح هذه الأبيات، فقال" قال القسطلاني في "المواهب اللدنية": وأجمعوا على أن الموضع الذي ضم أعضاءه الشريفة صلى الله عليه وسلم أفضل بقاع الأرض حتى موضع الكعبة، بل نقل التاج السبكي عن ابن عقيل الحنبلي أنها - أي البقعة التي قبر فيها عليه الصلاة والسلام - أفضل من العرش. وصرح الفاكهاني بتفضيلها على السموات .. " ا هـ ([1] ( http://www.ahlalhdeeth.com/vb/private.php?do=newpm&u=49860#_ftn1)) باختصار.
وقال في موضع آخر " وكذلك يشرع شد الرحال إلى مسجده صلى الله عليه وسلم، الذي ما شرف وعظم إلا بإضافته إليه، ولكون قبر سيد المرسلين فيه" ([2] ( http://www.ahlalhdeeth.com/vb/private.php?do=newpm&u=49860#_ftn2)).
والجواب: إن هذا القول من أفسد الأقوال وأنكرها، وبطلانه ظاهر لمخالفته للأدلة الشرعية والعقلية، ولم يستند قائله على دليل أو إلى شبهة دليل، وإنما هو الظن، والظن أكذب الحديث، كما صح في الحديث ([3] ( http://www.ahlalhdeeth.com/vb/private.php?do=newpm&u=49860#_ftn3)).
وقد فند هذا القول شيخ الإسلام رحمه الله، فقال" أما نفس محمد صلى الله عليه وسلم فما خلق الله خلقاً أكرم عليه منه. وأما نفس التراب، فليس هو أفضل من الكعبة البيت الحرام، بل الكعبة أفضل منه، ولا يعرف أحد من العلماء فضل تراب القبر على الكعبة إلا القاضي عياض، ولم يسبقه أحد إليه، ولا وافقه أحد عليه، والله أعلم" ا هـ. ([4] ( http://www.ahlalhdeeth.com/vb/private.php?do=newpm&u=49860#_ftn4)).
وقال في موضع آخر" وكذلك مسجد نبينا، بناه أفضل الأنبياء، ومعه المهاجرون والأنصار، وهو أول مسجد أذن فيه في الإسلام، وفيه كان الرسول يصلي بالمسلمين الجمعة والجماعة، ويعلمهم الكتاب والحكمة، وفيه سنت السنة، وكانت الصلاة فيه بألف، والسفر إليه مشروعاً في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وليس عنده قبر.
والفرق بين البيت والمسجد مما يعرفه كل مسلم، فإن المسجد يعتكف فيه، والبيت لا يعتكف فيه. والمسجد لا يمكث فيه جنب ولا حائض، وبيته كانت عائشة تمكث فيه وهي حائض، وكذلك كل بيت مرسوم تمكث فيه المرأة وهي حائض، وكانت تصيبه فيه الجنابة فيمكث فيه جنباً حتى يغتسل، وفيه ثيابه وطعامه وسكنه وراحته، كما جعل الله البيوت.
ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم في حال حياته كان هو وأصحابه أفضل ممن جاء بعدهم، وعبادتهم أفضل من عبادة من جاء بعدهم. وهم لما ماتوا لم تكن قبورهم أفضل من بيوتهم التي كانوا يسكنونها في حال الحياة، ولا أبدانهم بعد الموت أكثر عبادة لله وطاعة مما كانت في حال الحياة.
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال" أحب البقاع إلى الله المساجد" فليس في البقاع أفضل منها، وليست مساكن الأنبياء، لا أحياء ولا أمواتاً بأفضل من المساجد هذا هو الثابت بنص الرسول واتفاق علماء أمته. وما ذكره بعضهم من أن قبور الأنبياء والصالحين أفضل من المساجد، وأن الدعاء عندها أفضل من الدعاء في المساجد، حتى في المسجد الحرام والمسجد النبوي، فقول يعلم بطلانه بالاضطرار من دين الرسول، ويعلم إجماع علماء الأمة على بطلانه إجماعاً ضرورياً، كإجماعهم على أن الاعتكاف في المساجد أفضل منه عند القبور.
وما ذكره بعضهم من الإجماع على تفضيل قبر من القبور على المساجد كلها، فقول محدث في الإسلام، لم يعرف عن أحد من السلف، ولكن ذكره بعض المتأخرين، فأخذه عنه آخر وظنه إجماعاً، لكون أجساد الأنبياء أنفسها أفضل من المساجد. فقولهم يعم المؤمنين كلهم، فأبدانهم أفضل من كل تراب في الأرض.
¥