وممن يرى تكفير العوامّ محمد بن يوسف السنوسي الذي تحتل مؤلفاته مكانة مرموقة عند متأخري "الأشاعرة الجهمية" حيث امتزجت العقيدة بالتصوف المنحرف، يقول السنوسي: من ثبتت إشارته ودلت عبارته و لاحت ولايته لا ينبغي الإنكار عليه في حال أفعاله كيف ما كانت. ويقول أيضا في ترجيح عدم صحة إيمان المُقلِّد: الحقّ الذي يدل عليه الكتاب والسنة ـ في زعمه ـ وجوب النظر الصحيح مع التردد في كونه شرطا في صحة الإيمان أو لا والراجح أنه شرط في صحته. فالمُقلِّد (العامّي) عند جمهور "الأشعرية الجهمية" هو بين الكفر والفسوق والعصيان.
وأحسن من هذا المذهب ما ذهب إليه بعض أئمة الماتريدية من أن إيمان المُقلِّد صحيح من غير عصيان.
وأمام خطورة هذه الأفكار فقد تكفَّل بعض العلماء والفلاسفة والمتكلمين بالردّ على هذه الطروحات المتناقضة حيث كان "ابن رشد" على سبيل المثال يرى أن علم الكلام لا يصلح للعلماء ولا يفهمه العوام، لأنه ليس برهانيا ولا شرعيا، حيث توقف في دائرة الجدل ولم يتخطاها إلى دائرة البرهان حيث بقيت الفرق الكلامية على رأسها "الأشعرية الجهمية" في مستنقع السوفسطائية. ومن أُسُس هؤلاء الأشاعرة تكفير من يثبت علو الله عز وجل وتكفير من يثبت صفات الرحمن على طريقة مالك والسلف والأشعري أيضا واعتباره مُشَبِّها ومُجَسِّما.
ونشير هنا أنه من علامات الجهمي أنه يصف من يثبت الصفات على طريقة السلف مُشَبِّها ومُجَسِّما. زد على ذلك تكفير هؤلاء لمن يقول بالعِلِّية والسّببية (ومن يقل بالطبع أو بالعِلّة فذاك كفرٌ عند أهل الملة)، حيث اعتبروا أن النار ليست عِلّة الإحراق، وأن الأكل ليس عِلّة الشّبع ... إلخ.
ومَكمَنُ الخطورة في هذه العقيدة هو منافاتها للروح العلمية لهذا العصر حيث الاستكشافات الباهرة للقوانين والعلاقات السّببية بين ظواهر الكون الذي خلقه الله وخلق نواميسه وقوانينه، ومن خلال النظر فيها نكتشف عظمة الله عز وجل وتوحيده. قال الغزالي: ومذهب أهل الحقّ أن المُؤثِّر هو قدرة الله تعالى وأن الأسباب لا أثرَ لها والله أعلم. وقال: الاقتران بين ما يُعتقَد في العادة سببا وبين ما يُعتقَد مسبِّبا ليس ضروريا عندنا. وقال أيضا: ليس الجَزُّ سببا في الموت ولا الأكل سببا للشّبع ولا النار عِلّة الإحراق ولكنّ الله يخلق الإحراق والموت والشّبع عند جريان هذه الأمور لا بها.
كما أنكر الأشاعرة كل "لام" تعليل في القرآن وقالوا: إن كونه يفعل شيئا لعِلّة ينافي كونه مختارا مريدا، وبعضهم يُسمِّي ذلك نفي الغَرَض عن الله، ويعتبرونه من لوازم التوحيد والتنزيه. كما أنكر الأشاعرة الحكمة والغَرَض والتّعليل في أفعال الله عز وجل. قال الآمدي: مذهب أهل الحق أن الباري تعالى خلق العالم وأبدعه لا لغاية يستند الإبداع إليها ولا لحكمة يتوقف الخلق عليها بل كل ما أبدعه من خير وشر ونفع وضرٍّ لم يكن لغَرَضٍ قاده إليه ولا لمقصود أوجب الفعل عليه؛ بل الخلق وأن لا خلق له جائزان، وهما بالنسبة إليه سيان.
وأما عقيدة الجبر فالباحث في مفهوم الكسب عند الأشاعرة يجده يتأرجح في اضطراب كبير بين محاولة إثبات حرية الاختيار والجبر، أما "فخر الدين الرازي" فقد صرَّح بالجَبر في بعض مؤلفاته مثل (المباحث المشرقية)، ومما يرجح جبرية الكسب الأشعري مسألة جواز التكليف بما لا يطاق ووقوعه التي يقول بها "الأشاعرة الجهمية"، وكذلك ردُّ "أبي إسحاق الإسفرائيني" على "الجويني" الذي حاول أن يثبت حرية الفعل الإنساني في كتابه (العقيدة النظامية)، حيث اعتبر رأيه هذا من تأثيرات المعتزلة عليه، مع أن قول الجويني هو الصحيح كما يؤكده ابن القيم في كتابه (شفاء العليل).
هذا غيضٌ من فيضِ هذه المعتقدات المُحدَثة التي تمثل خطرا على العقيدة الإسلامية التوقيفية التي لا تؤخذ إلا من مصدرين معصومين هما الكتاب والسنة الصحيحة، وكان من الواجب في جميع عصور الأمة الإسلامية أن يوكل الأمر إلى العلماء الذين يسلكون طريق الالتزام بالمنهج العلمي الشرعي لا عن طريق تقليد أقوال الرجال الذين يصيبون ويخطئون وليَكُن قدوتهم قول مالك رحمه الله: كلٌّ يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب هذا القبر صلى الله عليه وسلم. وكما قال الشافعي رحمه الله: إذا رأيتم قولي يخالف قوله صلى الله عليه وسلم فاضربوا بقولي عرض الحائط.
وعلى رجال العلم ودعاة الإسلام التنبه إلى تأثير السلطات المتعاقبة على العقيدة الإسلامية، فقد حاول الكثير من الزعماء والقادة والرؤساء توجيه عقائد المسلمين بما يوافق سياساتهم حيث كانت بدعة الجَبر والإرجاء الأكثر حظْوةً باهتمام الحُكّام عبر التاريخ الإسلامي فقد رأوا أنّ نشر البدع الاعتقادية لا يتم على أحسن وجه إلا بإلصاقها بالأئمة الأعلام كمالك والأشعري مثلما مرّ معنا في هذا المقال، وعلى الدوائر العلمية في الكليات والجامعات المتخصِّصة وما تملكه من أساتذة وباحثين ذوي الكفاءات العالية أن تسحب البساط من تحت أقدام ذوي التموقعات السياسوية والمقاصد الحزبية الضيقة حفاظا على عقيدة المجتمع التي هي أساس وحدته وتضامنه. والله الهادي إلى سواء السبيل.
د/ خميس بن عاشور.
كلية العلوم الإسلامية و العلوم الاجتماعية
جامعة. باتنة الجزائر
رابط المقال ( http://www.merathdz.com/play.php?catsmktba=2047)