فمن استدلَ بهذا الحديث على استحالة وجود الشرك في أرض العرب يقال له بيِّن لنا الشرك الذي حرمه الله وأخبر أنه لا يغفره؟!، فإن فسره بالشرك في توحيد الربوبية، فنصوص القرآن تبطل قوله؛ لأنه سبحانه أخبر عن المشركين أنهم يقرون بتوحيد الربوبية كما في قوله: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} , والآيات في ذلك كثيرة.
وإن فُسر الشرك ببعض أنواع العبادة دون بعض, فهو مكابر ويخاف على مثله أن يكون من الذين في قلوبهم زيغ، يتركون المحكم ويتبعون المتشابه, مع أنه ليس في الحديث حجة لهم ولا شبهة, وإنما معنى الحديث: أنه يئس أن يجتمعوا كلهم على الكفر.
الجواب الرابع: أن الشيطان لا يعلم الغيب ولذلك يئس.
في الحديث نسبة اليأس إلى الشيطان مبنياً للفاعل لم يقل (أيس) بالبناء للمفعول، ولو قدر أنه يئس من عبادته في أرض العرب إياساً مستمراً فإنما ذلك ظن منه وتخمين، لا عن علم لأنه لا يعلم الغيب، وهذا غيب لا يعلمه إلا الله {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ} فإنه يطلعه على ما يشاء من الغيب، وقد قال تعالى: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا} أي: من خير وشر, وهذا من مفاتح الغيب التي لا يعلمها إلا الله.
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مفاتح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله، لا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله، ولا يعلم ما في غد إلا الله". وكانت الشياطين والجن في زمن سليمان بن داود عليهما السلام يدعون علم الغيب فلما مات سليمان لم يعلموا بموته إلا بعد سنة وهم في تلك السنة دآئبون في التسخير والأعمال الشاقة، فلما علموا بموته تبين لهم أنهم لا يعلمون الغيب، قال تعالى: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ}.
ونبينا -صلى الله عليه وسلم- أخبر: "أنه يجاء برجال من أمته يوم القيامة فيؤخذ بهم ذات الشمال إلى النار فيقول: أصحابي أصحابي، فيقال له: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك". فكيف يقال إن الشيطان يعلم ما تستمر عليه الأمة من خير وشر وكفر وإسلام، وهذا غيب لا يعلمه إلا الله، ومن يطلعه عليه من رسله.
الجواب الخامس: أن المعنى للحديث هو أنه يئس أن تجتمع الأمة كلها على الشرك الأكبر.
قال الحافظ ابن رجب-رحمه الله-: على الحديث: المراد أنه يئس أن تجتمع الأمة كلها على الشرك الأكبر. وأشار ابن كثير-رحمه الله-: إلى هذا المعنى عند تفسير قوله تعالى: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ} , قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: يعني يئسوا أن تراجعوا دينهم, وكذا قال عطاء والسدي ومقاتل ثم قال: وعلى هذا المعنى يرد الحديث الصحيح: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال:" إن الشيطان يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب".ا. هـ تفسير القرآن العظيم (3/ 25).
فأشار إلى أن معنى الحديث يوافق لمعنى الآية، وإن معنى الحديث أنه يئس أن يرجع المسلمون عن دينهم إلى الكفر, ولا يدل الحديث: أن الشيطان يئس من وجود شرك في جزيرة العرب أبد الآبدين.
ومما يدل لما ذكرنا ما رواه الإمام أحمد عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: لما فتح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مكة رنّ إبليس رنّة اجتمع إليه جنوده فقال: (ايئسوا أن تردوا أمة محمد إلى الشرك بعد يومكم هذا، ولكن افتنوهم فافشوا فيهم النوح) رواه الطبراني في الكبير (12/ 12318) , انظر الصحيحة برقم (3467).
يتبين بما ذكرنا أنه لا دلالة في الحديث على استحالة وقوع الشرك في جزيرة العرب والله تعالى أعلم.
ـ[زوجة وأم]ــــــــ[22 - 03 - 09, 12:20 م]ـ
جزاك الله خيرا
ـ[عبد الملك السلفى]ــــــــ[22 - 03 - 09, 01:41 م]ـ
جزاكم الله خيرا وفتح لك
ـ[أبوراكان الوضاح]ــــــــ[22 - 03 - 09, 01:46 م]ـ
الله يفتح عليك ..
ـ[سامي العنزي السلفي]ــــــــ[23 - 03 - 09, 12:32 ص]ـ
الله يفتح عليك فتحاً مبيناً كما فتح على ابن حنبل وابن تيميه رحمهما الله
وهذا الفتح لا يساوي شيء ابداً في مقدار علم الله عز وجل
ـ[أبو عبد الله العميسان]ــــــــ[24 - 03 - 09, 01:15 ص]ـ
أحسن الله إليكم جميعاً