قلت: كلام الشيخ العثيمين رحمه الله في هذه المسألة مختلف؛ فمرة يرى أنه سنة كما في كلامه السابق، و مرة يقول إنه مشروع إلا أنه ليس بسنة، و مرة يرى أنه غير مشروع البتة!!! و لكنه في جميع الحالات يشدد على أنه لا ينبغي الإنكار على من يفعل ذلك. ففي " الشرح الممتع " (ج10/ص26) قال: " ... و على هذ ا؛ فالأفضل أنْ لا يمسح، و لكن لا نُنكرُ على مَن مَسَحَ اعتماداً على تحسين الأحاديثِ الواردة في ذلك؛ لأنَّ هذا مما يختلف فيه النَّاسُ ".اهـ
و في " فتاوى نور على الدرب " (ج19/ص252) قال: " ... و لكن لو وجدنا أحداً يمسح فإنا لا ننهاه عن ذلك لاحتمال أن تكون الأحاديث الواردة في هذا - و هي ضعيفة - ترتقي إلى درجة الحسن ".اهـ
و فيه أيضا (ج17/ص496) قال: " ... و لكن مع هذا لو مسح وجهه فلا نبدعه أو نضلله لورود بعض الأحاديث، و إن كان في صحتها نظر ".اهـ
و فيه أيضا (ج15/ص6) قال: " ... و لا ينكر على من فعله لأن بعض العلماء استحبه ".اهـ فلله درّه ما أنصفه!
و هكذا يتبين لك مجازفة من قال أن ذلك مما لا أصل له، و كذا من قال إنه بدعة فإنه لم يصب. و يرده ما ثبت من فعل السلف رضوان الله عليهم؛ فقد أخرج البخاري في " الأدب المفرد " (906) من طريق محمد بن فليح قال: أخبرني أبي عن أبي نعيم – و هو وهب - قال: " رأيتُ ابن عمر و ابن الزبير يدعوان، يديران بالراحتين على الوجه ". حسّن الحافظ إسناده في " أمالي الأذكار ". و حرصُ ابن عمر رضي الله عنهما على اتباع السنة لا يحتاج إلى بيان!
تنبيه: أثر ابن عمر و ابن الزبير رضي الله عنهم ترجم له البخاري بقوله: باب رفع الأيدي في الدعاء. قال العلامة بكر أبو زيد في " جزئه ": و هذه الترجمة تدل على أن المراد بهذا الأثر رفع الأيدي للدعاء لا المسح، و لهذا قال شارحه: (حيث تكون راحتاه مقنعتين لوجهه). ذكرت ذلك للتنبيه على أن المراد به الرفع لا المسح والله أعلم.اهـ كذا قال!
أقول: هذا من أعاجيب ما يقع للأكابر في الفهم! إذ كيف يكون إدارة الكف على الوجه بمعنى رفعها للوجه؟؟؟ و الفعل ظاهر بصيغته للدلالة على معنى الحركة و المماسة! فإذا قلت: فما وجه المناسبة إذًا بين الأثر و عنوان الترجمة؟ فالجواب: أن البخاري كعادته دقيق في استنباطه، عميق في نظره، و من تأمل الأثر وجد أنه دليل على الرفع و المسح معا؛ ذلك أن مسح الوجه بعد الدعاء يدل على رفع اليدين قبل ذلك! و العجيب أن الشيخ بكر حفظه الله قرر هذا في " جزئه " فقال: (ليعلم أن محل الخلاف في مسح الوجه باليدين بعد الدعاء إنما هو إذا رفع الداعي يديه للدعاء هل يشرع له المسح بعد الفراغ منه أم لا.
أما إذا دعا الداعي غير رافع ليديه فإنه لا يمسح و ليس محل خلاف إذاً و الله أعلم) اهـ
و في " مصنف عبد الرزاق "، في (باب مسح الرجل وجهه بيده إذا دعا)، قال:
عن ابن جريج عن يحيى بن سعيد أن ابن عمر كان يبسط يديه مع العاص، و ذكروا أن من مضى كانوا يدعون ثم يردون أيديهم على وجوههم ليردوا الدعاء و البركة.
قال عبد الرزاق: رأيت أنا معمرا يدعو بيديه عند صدره، ثم يرد يديه فيمسح وجهه.
قال عبد الرزاق: و أنا أفعله.اهـ
و في " صلاة الوتر " لابن نصر (1/ 112): عن المعتمر قال: رأيت أبا كعب - صاحب الحرير - يدعو رافعا يديه، فإذا فرغ من دعائه يمسح بهما وجهه، فقلت له: من رأيت يفعل هذا؟ فقال: الحسن (البصري).اهـ
قلت: أبو كعب اسمه عبد ربه بن عبيد، ثقة. انظر " تهذيب التهذيب " (6/ 117)
قال ابن نصر: و رأيت إسحاق يستحسن العمل بهذه الأحاديث، و أما أحمد بن حنبل فحدثني أبو داود قال: سمعت أحمد و سُئل عن الرجل يمسح وجهه بيديه إذا فرغ في الوتر؟ فقال: لم أسمع فيه شيئًا، و رأيت أحمد لا يفعله. اهـ
قلت: ما نفى الإمام أحمد علمه به و استنكره هو و بعض الأئمة، إنما هو مسح الوجه بعد الفراغ من دعاء القنوت داخل الصلاة. و من فهم غير هذا فقد وهم!
ففي " الأوسط " لابن المنذر (8/ 251) قال: و حكي عنه – يعني الإمام أحمد - أنه قال: أما في الصلاة فلا، و أما في غير الصلاة، كأنه لم ير به بأسا، و روي عن الحسن أنه كان يفعله.اهـ
بل في " مسائل ابنه " (1/ 49)، قال: سألت أبي عن رفع اليدين في القنوت؟
¥