الخامس:و مما ينبغي أن ننتبه إليه أن كثيرًا من المشركين الذين أمرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم بمخالفتهم بإعفاء اللحى و حف الشوارب كانوا يوفرون لحاهم كما قد عرف عنهم، و مع ذلك أمرنا بمخالفتهم، أما إعفائهم لحاهم فهو من بقايا الدين الذي ورثوه عن إبراهيم عليه و على نبينا الصلاة و السلام كما ورثوا عنه الختان أيضًا، فقد صح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في قوله تعالى: (و إذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات) قال: هي خصال الفطرة و هذا يرشدها إلى أصل مهم و هو أن مخالفة المشركين تارة تكون في أصل الحكم و تارة في وصفة فإذا كانوا يستأصلون لحاهم و شواربهم خالفناهم في أصل ذلك الفعل بإعفاء اللحى و قص الشوارب، و إن كانوا يوفرون لحاهم و شواربهم وافقناهم في أصل إعفاء اللحى، و خالفناهم في صفة توفير الشوارب بقصها، و اخذ ما طال عن الشفة، كما بينته سنة سيد ولد آدم صلى الله عليه و سلم في الآخرة و الأولى.
السادس: و إذا سلمنا أن علة هذا الحكم هو مخالفة المجوس فمخالفة المسلمين للمشركين على وجهين كما أشار إلى ذلك شيخ الإسلام رحمه الله في ((الاقتضاء)).
=>الوجه الأول: تخالفهم لمجرد المخالفة كما خالف الرسول صلى الله عليه و سلم أهل الكتاب في فرق الشعر بعد أن وافقهم أولاُ إذ كان يسدل تأليفًا لهم، فلما أصروا على الكفر خالفهم، و مثل ذلك صوم عاشوراء أمر بالمخالفة بصوم يوم قبله أو بعده مخالفةً لهم لا غير.
=>الوجه الثاني: أن يكون الأمر الذي أمرنا بمخالفتهم فيه مضرًا في ذاته منقصًا، و مخالفتهم فيه كمال و مصلحة)، و هذا هو الشأن في حرمة حلق اللحية و وجوب إعفائها إذ هدى المجوس فيه نقص و إضرار، و مخالفتهم كمل و صلاح لأن إعفاء اللحية من سنن الأنبياء التي اتفقت عليها الشرائع، و مما ينطبق عليه الوجه الثاني نهي الرسول صلى الله عليه و سلم عن الشرب و الأكل في آنية الذهب و الفضة الثابت في البخاري و مسلم فمع كونه من هدى الكفار إلا أن هديهم في ذلك منقصة و تركه كمال و مصلحة، و الله أعلم.
الشبهة الثالثة:
قال بعضهم: مما أمر به رسول الله صلى الله عليه و سلم مخالفة للكفار الصلاة في النعال و خضاب الشيب، و كلاهما ليس بواجب، و بناءً عليه تتماثل الأدلة الواردة في الخضاب و الصلاة بالنعال و إعفاء اللحية بجامع أن كلا منها قصد به مخالفة الكفار.
الجواب:
أن هذا القياس فاسد من وجوه:
الأول: أنه قياس منصوص على منصوص، و شرط القياس أن يكون الفرع غير منصوص عليه.
الثاني: أن علة الأمر بالصلاة في النعال و تغيير الشيب بالخضاب إنما هي مجرد المخالفة لا غير في حين أن علة الأمر بإعفاء اللحية ليست المخالفة وحدها كما تقدم.
الثالث: أن الأمر بالصلاة في النعال وردت أدلة –أشهر من أن تُذكر- تصرفه من الوجوب إلى الندب عند من يقول به فقد صلى الرسول صلى الله عليه و سلم حافيًا و كذلك الصحابة رضوان الله عليهم، بخلاف الأمر بإعفاء اللحية حيث لم يأت صارف يصرفه عن الوجوب إلى الندب، و المعروف أن شرط الحكم في القياس أن يكون حكم الفرع مساويًا لحكم الأصل، فلا يصح قياس واجب على مندوب و العكس لعدم مساواتهما في الحكم.
الرابع: و قد أشار إليه شيخ الإسلام في ((الاقتضاء)) معلقًا على حديث (غيروا الشيب، و لا تشبهوا باليهود و لا بالنصارى)، حيث قال رحمه الله: (و هذا اللفظ أدل على الأمر بمخالفتهم و النهي عن مشابهتهم فإنه إذا نهى عن التشبه بهم في بقاء بياض الشيب الذي ليس من فعلنا فلأن ينهى عن إحداث التشبه بهم أولى، و لهذا كان هذا التشبه بهم يكون حرامًا بخلاف الأول).
و بعبارة أخرى: الأمر بالخضاب أمر بتغيير الشيب الذي نتفق مع الكفار فيه إذ نبقيه بدون صبغ، و في هذه الحال يوافق المسلم الكافر في شيء ليس من فعله بل هو مقتضى السنن الكونية التي تسري على المسلم و الكافر و مع هذا استحب له الخضاب، أما إذا وافق المسلم الكافر في حلق اللحية فقد شابههم في شيء تسبب هو في فعله و أحدثه من نفسه فأدى إلى موافقتهم فيما يصادم الفطرة و الشرع معًا، و العلم عند الله تعالى.
¥