ومما يوضح لك ذلك أن يقال في قضية إدخال الشهر أمامنا طريقان أحدهما معقد لا يعرفه إلا الخاصة وله مقدمات طويلة متعبة ويكون في زمن دون زمن وفي بلد دون بلد، والآخر سهل مذلل بمقدور كثير من الناس في كل الأمكنة والأزمنة فلو قدر أننا تحاكمنا إلى العلم والعقل في أي الطريقين أفضل وأحسن وأسلم فهما هو الجواب؟
لا شك أن الطريق الآخر هو الأفضل والأسلم وهو المقدور لعامة البشر المبين لسماحة الإسلام ويسره.
ومرادي بالأمية هنا اعتماد الرؤية في إدخال الشهر لا اطراح علم الحساب بل لسنا محتاجين إليه في ديننا لأن عندنا طريقاً شرعياً يوصلنا إلى المقصود بدون عناء كثير.
السابع: في التوجيه السابق مخالفة للحديث الشريف حيث إن الحديث عبر بلفظ الرؤية، فعلق الأمر على الرؤية وتوجيهكم السابق يلزم منه تعليق الحكم على وجود الهلال لا على رؤيته وبين رؤية الهلال ووجوده فرق لا يخفى فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "صوموا لرؤيته" وأنتم تقولون: صوموا لوجوده، نعم ادعيتم أن الرؤية غير مقصودة وأن المقصود هو العلم، قلنا: من أين لكم ذلك والحديث نص في الرؤية فلماذا خالفتموه؟
وقد تناقض كلامكم ففي توجيهكم السابق ذكرتم أن الحديث يدل على الرؤية لأنها هي المناسبة للوقت ثم قلتم إن الرؤية بمعنى العلم فلماذا هذا التناقض وما دليله؟ والتناقض في القول دليل على فساده.
وقد تبين بذلك أن توجيههم للحديث توجيه مباين للحق والصواب.
ثالثاً: الفهم الخاطئ للمسألة:
هناك عدة أشياء في هذه المسألة يحكم عليها التأصيل العلمي بأنها خطأ وقد سبق بعضها ومنها:
1. أن المسألة مسألة شرعية دينية لا مسألة علمية فلكية دنيوية فسبيلها أن تستمد من الشرع.
2. أن الشريعة الإسلامية علقت دخول الشهر على رؤية الهلال وأنصار الحساب علقوه على وجود الهلال وهذا تغيير لألفاظ الشريعة ومعانيها فكم في ترائي الهلال من مصالح وعبر وتيسير ليست موجودة في العلم بوجود الهلال.
3. أن العلم الدنيوي لا يكون حاكماً على الشريعة وإنما هو محكوم بالشريعة ومن الخطأ البين محاولة لي الشريعة لتوافق العلم الدنيوي حقه وباطله وقد أضر هذا بالإسلام وأهله كثيراً في هذه المسألة وغيرها.
4. أن أكثر من يقولون بالحساب في دخول الشهر إنما يعنون به الحساب القائم على علم الفلك الذي يملك الآلات الدقيقة والمراصد الحديثة لا هؤلاء الحساب الذين يجتهدون بحسب علمهم الشخصي.
5. أن رد شهادة العدول إذا نفى الحساب وجود الهلال بحجة أن الحساب قطعي ونتائجه قطعية لأنه مبني على الحس وما بني على الحس فهو قطعي.
وهذا خطأ بدليل أن الحساب نفى وجود الهلال في بعض الأزمنة ومع ذلك استفاضت الشهادة في أمكنة كثيرة على إثبات الرؤية فلو كان قطعياً لما خالفته الشهادة المستفيضة المتعمدة على الحس مع أن قولهم: إن الحساب معتمد على الحس خطأ لأن الحساب معتمد على العقل فهو كاسمه عمليات حسابية معينة وإنما الحس هو في رؤية الكواكب والنجوم أما حساب سيرها فهو عقلي يدخله الغلط.
ومما يدل على رد قولهم هذا أن الحسابيين مختلفون ولو كانت نتائج الحساب قطعية لما اختلف أهله.
نعم قد ذكوا أن الحساب المعاصر المعتمد على علم الفلك نتائجه دقيقة جداً.
فكان ماذا؟ وارجع إلى ما سبق في الرد عليهم في الشبهة الثانية ليتبين لك أن المسألة مسألة شرعية تستمد من الشرع وأن الشرع علق الأمر على الرؤية لا على وجود الهلال وأن هذا لا يتغير من زمن إلى زمن ولا من حال إلى حال إبقاءً على كمال الشريعة وشمولها وتيسيرها وعمومها للخلق.
والذين قالوا برد الشهادة إذا نفاها الحساب إن كانوا يخافون على صيام الناس فهذا قصد حسن لكنه لا يجيز مخالفة الشريعة بل هو من التكلف المذموم الذي نهينا عنه في قوله: (وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) (صّ: من الآية86)، وفي الشريعة الكاملة ما يغني عنه من التأكد من الشهادة وكيفيتها والتأكد من عدالة الشهود وعلمهم ورد الشهادة عند وجود الشك المؤثر فيها.
فالاحتياط للشهادة يغني عن ما قالوه ثم إن فيه تأدباً وتوقيراً لله ولشرعه الكريم وتغظيماً لحرماته (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) (الحج: من الآية32).
وإذا لم يتأدب العلماء مع الشرع فهذا سبيل منذر بفتنة وشر كبير.
¥