واشدد بجَلْبِكَ جُرْد خيلك أزرها
تردُدْ على أعقابها أرزاءها
وقد علق د. الهراس على هذه القصيدة بأن ابن الأبار قد وجهها للأمير الحفصي سنة 635ه بعد ضياع بلنسية يستنهض فيها همته لاستنقاذ الأندلس. (2)
وقد أورد المقري هذه القصيدة في (نفح الطيب) وفي (أزهار الرياض) ونسبها إلى شاعر مجهول. ومن المتأخرين من نقل عن تلك المصادر القصيدة مع نسبتها إلى شاعر مجهول كالأمير شكيب أرسلان في كتابه "الحلل السندسية في الأخبار والآثار الأندلسية". (3) الذي ألفه قبل العثور على مخطوطة الديوان؛ فأرسلان وغيره في تلك الفترة لا لوم عليهم ومثلهم من ألف خلال الفترة ما بين مناقشة الرسالة عام 1386ه وحتى سنة طباعة الديوان عام 1405ه، إنما اللوم على من ألف من الكتّاب والدارسين بعد انتشار الديوان مطبوعاً ونقلوا عن المصادر القديمة القصيدة ونسبوها لشاعر مجهول أيضاً!؟ فهؤلاء تسرعوا في نقولاتهم ولم ينهجوا منهج البحث والتدقيق والاستقصاء للمصادر القديمة والمراجع الحديثة ومتابعة الجديد من البحوث والدراسات.
النثر عند ابن الأبّار
برع ابن الأبار كغيره من الأدباء الاندلسيين في النثر كما برع في الشعر، وليس هذا غريباً على من تبحر في علوم اللسان نحواً ولغة وأدباً، وهو كاتب بليغ حسن الخط جيد الضبط اختاره الأمير الحفصي للعمل في بلاطه حتى رشحه لكتابة العلامة وهي من أعلى المناصب في هذا المجال، فعمل بها مدة إلى أن عين الأمير الحفصي أبا العباس الغساني بدلاً منه، لأنه كان يحسن الكتابة بالخط المشرقي الذي يفضله الأمير عن الخط المغربي.
وقد أورد المقري لابن الأبار رسائل كثيرة تضمنت نثراً بديعاً على اختلاف أنواعها وأسباب كتابتها، فبعضها رسائل إلى أصحابه وأقرانه من الكتاب والأدباء، وبعضها شفاعات لاطلاق مساجين أو مساعدة محتاجين، ويطول بنا المقام لاستعراض تلك الرسائل، ولكن نكتفي بمقطع من رسالته التي وجهها إلى الكاتب البارع القاضي أبي المطرف بن عميرة المخزومي، ويصف فيها ما حل ببلنسية بعد سقوطها بيد الأعداء، يقول فيها بعد المقدمة:
"الحديث عن القديم شجون (4)، والشأن بتقاضي الغريم شؤون، فلا غرو أن أطارحه إياه، وأفاتحه الأمل في لقياه، ومن لي بمقالة مستقلة، أو إخالة (5) غير مخلة، أبت البلاغة إلا عمادها، ومع ذلك فسأنبئ عمادها، درجت اللِّدَات والأتراب (6)، وخرجت الروم بنا إلى حيث الأعراب، أيام دفعنا لأعظم الأخطار، وفجعنا بالأوطان والأوطار، فإلامَ نداري بَرْحَ الألم؟ وحتامَ نساري النجم في الظلم؟ جمع أوصاب ما له من انفضاض، ومضض اغتراب شذ عن ابن مُضاض (7)، فلو سمع الأول بهذا الحادث، ماضرب المثل بالحارث".
ثم يتحدث عن وداع الأوطان ويبدأ ببلنسية التي ترعرع فيها:
"وأما الأوطان المحبب عهدها بحكم الشباب، المشبب فيها بمحاسن الأحباب، فقد ودعنا معاهدها وداع الأبد، وأخنى عليها الذي أخنى على لُبَد، أسلمها الإسلام، وانتظمها الانتثار والاصطلام، حين وقعت أنْسُرُها الطائرة، وطلعت أنحُسُها الغائرة، فغلب على الجذل الحزن، وذهب مع المسكين السكَن:
كزعزعِ الريحِ صَكّ الدوح عاصفها
فلم يَدَع من جنى فيها ولا غُصُنِ
واها وواها يموت الصبر بينهما
موت المحامد بين البخل والجُبُن
"أين بلنسية ومغانيها، وأغاريد وُرْقِها (8) وأغانيها؟ أين حُلَى رصافتها وجسرها، ومنزلا عطائها ونصرها؟ أين أفياؤها تندى غضارة، وذكاؤها تبدو من خُضارة (9)؟ أين جداولها الطافحة وخمائلها؟ أين جنائنها النفّاحة وشمائلها؟ ".
بعدها يعرج على مدن الأندلس الأخرى يتأسف على سقوطها وضياعها:
"ويا لشاطبة وبطحائها، من حيف الأيام وإنحائها، ولهفاه ثم لهفاه على تُدْمِيرَ وتلاعها، وجَيّان وقلاعها، وقرطبة ونواديها، وحمص وواديها، كلها رُعِيَ كَلَؤها، ودُهي بالتفريق والتمزيق مَلَؤها، عض الحصار أكثرها، وطمس الكفر عينها وأثرها، وتلك إلبيرة بصدد البوار، ورية في مثل حَلْقة السوار، ولا مرية في ألمرية وخفضها على الجوار" (10).
سينية ابن الأبّار في رثاء بلنسية
¥