تعرضت بُلَنْسِيَةُ، كغيرها من المدن والممالك الأندلسية، لهجمات النصارى وواجهت خطر السقوط، فبعث حاكمها ابن مردنيش قبل تضييق الحصار عليها وفداً إلى حاكم إفريقية أبي زكريا الحفصي طالباً المدد والنجدة لإنقاذ بلنسية، وكان من بين الوفد ابن الأبّار الذي ألقى بين يدي الأمير قصيدة عصماء عُدَّت من أشهر القصائد الأندلسية التي تصف ما حل بالمدن الأندلسية من بلاء ومحن بعد تسلط الأعداء عليها. ولئن عُدَّت نونية أبي البقاء الرندي في رثاء الأندلس "أم المراثي"، ومطلعها:
لكل شيء إذا ما تم نقصانُ
فلا يُغَرَّ بطيب العيش إنسانُ
فإن سينية ابن الأبّار، لا تقل عنها شأنا ولا جمالاً وإبداعاً وهي صرخة استغاثة تستنهض الهمم للدفاع عن الأمة ومقدساتها وقد بلغت سبعاً وستين بيتاً كما جاءت في ديوان ابن الأبار (11) وصفها المقرّي في أزهار الرياض بقولهوهي من غُرَر القصائد الطنانة) (12) كما وصفها في نفح الطيب بالسينية الفريدة التي فضحت من باراها، وكبا دونها من جاراها (13) ثم أوردها في كلا مصنفيه كاملة وبلغت 67 بيتاً، ونقل المقري عن الغبريني قوله في سينية ابن الأبار: "لو لم يكن له من الشعر إلا قصيدته السينية التي رفعها للأمير أبي زكريا -رحمة الله تعالى- يستنجده ويستصرخه لنصرة الأندلس، لكان فيها كفاية، وإنْ نَقَدَها ناقد، وطعن عليه فيها طاعن، ولكن كمال قال أبو العلاء المعرّيّ:
تكلم بالقول المضلل حاسد
وكل كلام الحاسدين هواء" (14)
وأوردها ابن خلدون في سبعة وأربعين بيتاً، وذكر المناسبة التي قيلت فيها خلال سرده لخبر بيعة بلنسية ومرسية وأهل شرق الأندلس ووفدهم لأمير إفريقية وحاكمها ابي زكريا الحفصي.
يقول رحمه الله:"ثم تملك طاغية قشتالة مدينة قرطبة، وظفر طاغية أرغون بالكثير من حصون بلنسية والجزيرة، وبنى حصن أنيشة لحصار بلنسية، وأنزل بها عسكره وانصرف، فاعتزم زيان بن مردنيش غزو من بقي بها من عسكر أرغون، واستنفر أهل شاطبة وشقر وزحف إليهم، فانكشف المسلمون، وأصيب كثير منهم واستشهد أبو الربيع بن سالم شيخ المحدثين بالأندلس (شيخ ابن الأبار)، وكان يوماً عظيماً، وعنواناً على أخذ بلنسية ظاهراً، ثم ترددت عليها سرايا العدو، ثم زحف إليها طاغية أرغون في رمضان سنة خمس وثلاثين (يعني 635ه) فحاصرها واستبلغ في نكايتها.
" وكان بنو عبد المؤمن في مراكش قد فشل ريحهم، وظهر أمر بني أبي حفص بأفريقية، فأمل ابن مردنيش وأهل شرق الأندلس الأمير أبا زكريا للكرة، وبعثوا إليه بيعتهم، وأوفد عليه ابن مردنيش كاتبه الفقيه أبا عبدالله بن الأبّار صريخاً، فوفد وأدى بيعتهم في يوم مشهود بالحضرة، وأنشد في ذلك المحفل قصيدته على رويِّ السين، يستصرخه فيها للمسلمين (15) "، ولبى الأمير الحفصي النداء وأرسل اسطوله إلى شواطئ بلنسية يحمل المدد من طعام وسلاح لكن بعد فوات الأوان وسقوط المدينة بيد العدو بعد أن سلمت صلحاً "وكان أمر الله قدراً مقدوراً".
ونص القصيدة (16):
أدركْ بخيلك خيل الله أندلسا
إن السبيل إلى منجاتها دَرَسَا
وهب لها من عزيز النصر ما التمست
فلم يزل منك عز النصر ملتمَسا
وحاشِ مما تعانيه حُشاشتها
فطالما ذاقت البلوى صباح مسا
يا للجزيرة أضحى أهلها جزراً
للحادثات وأمسى جدها تعسا
في كل شارقة إلمام بائقة
يعود مأتمها عند العدى عُرُسا
وكل غاربة إجحاف نائبة
تثني الأمان حِذاراً والسرور أسى
تقاسم الروم لا نالت مقاسِمُهم
إلا عقائلها المحجوبة الأنسا
وفي بلنسيةٍ منها وقرطبةٍ
ما ينسف النفْس أو ما ينزف النَّفَسا
مدائنٌ حلها الإشراك مبتسماً
جذلان وارتحل الإيمان مبتئسا
وصيّرتها العوادي العابثات بها
يستوحش الطرف منها ضعف ما أنسا
فمن دساكر كانت دونها حرسا
ومن كنائس كانت قبلها كنسا (17)
يا للمساجد عادت للعدى بيعاً
وللنداء غدا أثناءها جَرَسا
لهفي عليها إلى استرجاع فائتها
مدارساً للمثاني أصبحت دُرُسا
وأربُعٍ نمنمت يمنى الربيع لها
ما شئت من خِلَعٍ مَوْشيّة وكُسَا
كانت حدائق للأحداق مونقة
فصَوَّحَ النضرُ من أدواحها وعسا
وحال ما حولها من منظر عجب
يستجلس الركب أو يستركب الجُلُسا
سرعان ما عاث جيش الكفر وا حربا
عيث الدَّبَى في مغانيها التي كبسا
وابتز بزتها مما تحيَّفها
تحيُّف الأسد الضاري لما افترسا
فأين عيشٌ جنيناه بها خضراً؟!
وأين غصن جنيناه بها سلسا؟!
¥