["غريب في وطن الذئاب الشقراء" ... أحتاج للنقد والنصيحة]
ـ[أم زينب]ــــــــ[01 - 01 - 2008, 11:53 م]ـ
غريب في وطن الذئاب الشقراء
جلس حائرًا على سريره الصغير يستحضر فلمه المحبّب إليه فيكرّ الفلم في ذاكرته مستعرضًا أحداثه كما يكرّ فلم السينما مصورًا له بكلّ دقة تفاصيلَ تلك اللحظات التي بدأت مخالب النسيان تخطفها من ذاكرته العنكبوتية المليئة والمتشابكة بالأفكار.
لقد أتى هو وعائلته إلى هذا المكان إلى هذه القرية الصغيرة، لقد كان في بادئ الأمر يتوق لرؤية تلك البساتين المتنوعة والنسيم اللطيف، التي ألفها مذ كان هنا عندما كان عمره ست سنوات يصول ويجول في البساتين يركض ويتعثّر فيبكي ويضحك، والآن بعد ست سنوات أخرى يعود، لكنّه يعود طفلاً آخر بأفكار أخرى وابتسامة أخرى. لقد أصبح في الإعدادية ... أراد أن يكمل دراسته في مدينته بين أصدقائه وجيرانه، ولكن أبوه أصرّ على العودة إلى قرية "الذئاب الشقراء" _كما سمّاها هو ومازال يطلق عليها ذلك الاسم_ وهي قرية صغيره على الحدود التركية ... طبيعة عمل والده تستوجب السفر دائمًا إلى أنحاء تركيا، فوجد أن من الأنسب له ولعمله المجيء إلى القرية والاستقرار فيها ...
لقد ترك وراء ظهره آلاف الكيلو مترات تاركاً لحظات وافية رائعة، وبوهلة تصدّعت وشُلّت ... لقد أصابها مرض الفراق الذي تطول معالجته زمنًا.
عندما سمع أنه سيغادر قريته ووطنه "السودان" أحسّ أنّه مخطوف الفؤاد، مسلوب الإرادة ... إلى أين؟ إلى موطن الذئاب الشقراء، ذلك الخطف والسفر المفاجئ ... أحسّ نفسه مظلوماً ... أحسّ أنّ شيئًا قد كُسِر في نفسه، وأنّه مقيّد بوثاق جائع قد نال من روحه ونفسه قبل أن يأكل جسمه اللّيّن الصغير ... أصبح نحيلاً هزل الجسم ضعيف المقاومة ...
لقد دخل مدرسة غير المدرسة التي اعتاد على الدراسة فيها، ورأى فيها غير الوجوه التي اعتاد أن يلتقيَ بها كلّ صباح.
يكاد ينفجر رأسه بمجّرد التفكير بأنه منبوذ من مجتمعهم فقط لأنه خُلق بلون أسود، أهُوَ ذنبه أنه خُلق ببشرة سوداء، وأنه مختلف عن جميع الأطفال في هذه المدرسة؟ أم ذنبهم أنهم ببشرة بيضاء، ولم يعتادوا رؤية وجه غريب عنهم؟
كلّما ذهب إلى المدرسة أحسّ بالضعف عندما يضع قدمه على الباب ليدخل، يتردّد كثيرًا، ويستملكه الخوف، ويكبّله الحزن، ويأسره الأسى، لكنّه يتذكّر أمه وهي توصيه بالدراسة والاجتهاد فيدخل وهو يحسّ أن جميع الطلاب ينظرون إليه، ويُقيّمونه بنظراتهم، يتفحّصونه من رأسه إلى أخمص قدميه.
لا، ليس إحساسًا أبدًا، وليس تخيّلاً بل حقيقة مُرّة، حقيقة تجري ببطء كعقارب الساعة مصطحبة معها السمّ لتتغلغل في جسم ضعيف فتجعله مستعمرة لها، كان يقرأ في نظراتهم شيئًا من الكره منه ... من الحذر ... من الخوف ... ألهذه الدرجة لون وجهه مخيف!!
يستقبل أحيانًا وهو في غرفة الصف بعض نظرات الشفقة وكأنه متسوّل يتسكّع في الطريق، فيتصدّقون عليه بنظراتهم تلك. لا يريد تلك النظرات المصطنعة ولا تلك الهمسات التي تطحن الأعصاب كحجارة الرحى، ولا يطيق تلك الابتسامات الصفراء الكريهة.
كان ينتظر بحرقة جرس انتهاء الدوام المدرسي للخلاص من ذلك العذاب المرير ليذهب إلى حضن أمه ويبكي على صدرها، ويفرغ ما في نفسه من تعب ويخرج ما يكدّرها والهمّ فيجد كلّ شيء زاهٍ بألوان صافية تضجّ بالحياة كلّها بألوان مشرقة لكنّه لا يرى ذلك اللون الأسود بينهم، أيكون غير مدعوّ إلى معرض ألوان الجمال؟ أيكون غير مرغوب به؟ أيكون حاله مثل حاله؟
لقد بات ينظر إلى الجمال والطبيعة بذلك المنظار ... بتلك العدسة التي جعلوها في عينيه وزرعوها في عقله ... إنه من الجماعة السوداء، مخيف كالوطواط في الليل ... ما زالت تلك العبارات تتردد في مسامعه تاركةً أثرًا أسود دامس بحق.
... يتبع ...