تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[الشجرة]

ـ[بكاء]ــــــــ[08 - 04 - 2008, 09:56 ص]ـ

ليس لها فائدة الآن بعد أن مالت، وأصبحت موازية للأرض، حيث ارتفعت بساقها عن الأرض ما يقارب ربع المتر، ثم انحنت بعده موازية للأرض، فكنا نجلس عليها كالمقعد، فرع من فروعها اتجه إلى أعلى وبدأ يُكون من نفسه شجرة لها فروعها الخاصة، فروع أخرى اتجهت إلى أسفل، أصبحت الشجرة وسطاً بين الفروع المتجهة إلى أعلى والمتجهة إلى أسفل، والكل يتغذى منها، مع أنها هي نفسها موازية للأرض.

بمرور الوقت أصبحت الفروع المتجهة إلى أسفل ملتصقة بالأرض وأصبحت جذوراً مكشوفة وتحولت من فروع إلى جذور لأنها اتجهت لأسفل، وهذه طبيعة كل من يتجه إلى أسفل يُردم في التراب ولكنه قد يصبح جذوراً، أما الفروع المتجهة إلى أعلى فقد كون كل فرع مع نفسه شجرة وأصبحت له فروعه الخاصة به، وقد تفرع من هذا الجذع الكبير الموازي للأرض خمس شجيرات أخذت تكبر يوماً بعد يوم، كنا نجلس بين الشجيرات على الجذع الموازي للأرض متخذين منه أريكة أحياناً، وأحياناً أخرى مقعداً، وفي بعض الأحيان سريراً.

الجذع الكبير الموازي للأرض أخذ مساحة أرضية كبيرة، وجعل فكرتي لزراعته فكرة سيئة، فقد كنت أحسبه سوف يكون شجرة واحدة، لكنه مال ووازى الأرض وتفرع منه خمس شجيرات، أصبحن الآن يملأن المكان ظلاً، والعصافير نقلت من مساكنها القديمة فى الأشجار الأخرى إلى أعشاش جديدة ذات مساحات أكبر فوق الشجيرات الخمس، فكل الكائنات الحية تحب التغيير.

في الصباح قررت قطع هذه الشجرة، هذا الجذع الكبير الموازي للأرض، والذي تخرج منه خمس شجيرات، وأخذت فأسي الحاد واتجهت إلى أرضي الزراعية، لا داعي اليوم لكتابة قصة قصيرة فالاهتمام بالأرض ومراعاتها خيراته أكثر بكثير من هراء بعض القصص كما كانت تقول زوجتي.

عند محطة القطار، نادى عليّ شخص هناك، التفت إليه فإذ به خرشه الرسام ـ محمود خرشه الفورشاتي ـ حيث اعتاد أن يجلس صباح كل يوم هناك تارة يرسم شروق الصباح، وتارة يرسم الفلاحين وهم يقتادون بهائمهم إلى الحقول، وتارة يرسم الفلاحات بملابسهن الريفية، وأحياناً يُشخبط برسومات لا يفهمها أحد، حتى أنه رسم كل معالم القرية، وفي وقت الغروب ينتقل بخشبه وفرشه وأقلامه إلى نهر النيل شرقاً ليرسم وقت الغروب وعودة الفلاحين من حقولهم، وليلاً كان يجلس عند شاطيء ترعة الإبراهيمية يرسم اللحظات الليلية للقرية، مع اهتمامه بالقرية رماه الناس بالجنون، فمن هو العاقل هذا الذي تكون حياته كلها رسم في رسم؟ وتساءل أهل القرية فيما بينهم: لو أن خرشه عاقلاً لرسم رسوماته في بيته ولما خرج إلى الطبيعة؟

لم يكن خرشه مجنوناً على الأقل من وجهة نظري الخاصة، فهو فنان أراد أن يرسم القرية بحقيقتها لكن القرية لم تتركه يؤدي هوايته فلقبته بالمجنون .. وهو بالفعل كان يزداد جناناً فيقف ليرسم الموتى؛ عندما تمر جنازة متجهة إلى جامع الجبابين لدفنها، فهو يقف كالمجنون يُسرع في الرسم ونقل المشهد إلى لوحته الخشبية. وأحياناً يقف عند الجبابين راسماً قبب المدافن، وبكاء الأمهات على أبنائهن الموتى، وتوزيع الطلعة (العيش والحلوى والمكسرات) على أرواح الموتى في أيام العيد، يرسم خرشه كل ذلك.

كانت والدته تسترزق من لوحاته خاصة وهو بعيداً عن المنزل فيأتيها من يقدرون الفن ويشترونها بأبخس الأثمان دون علم ابنها وهي تبيع فرحة مسترزقة ولا تخبر ابنها.

وعندما كان يحتاج نجار القرية إلى قطعة من الخشب فكان ملاذه إلى أم خرشه تبيعه لوحات ابنها بأثمان زهيدة وبدوره هو يحول تلك اللوحات إلى شبابيك أو أبواب أو رفوف .. وخرشه الفنان تائه بين الحقول يرسم القمح والفول والبرسيم،والفلاحات اللاتي يحصدن ويزرعن،والفلاحين الذين يعزقون الأرض .. كانت تجيد إليه نساء الحقول بالطعام ظناً منهن أنه مجنون، وهو كان يرسم لحظة الجودة عليه.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير