وانعكست دراية ابن الفرس الواسعة بالفقه المالكي على منهجه في تحرير الاحكام الفقهية، فجاء كتابه غنياً بأقوال المالكية موافقاً لقواعدهم الفقهية والأصولية، وقد صدر ابن الفرس كتابه هذا بمقدمة بيّن فيها مقصوده، ولخص فيها منهجه، ثم تناول جميع سور القرآن الكريم بالتفسير الفقهي: من الفاتحة إلى المعوذتين، وتوسع أكثر في بيان الأحكام الفقهية الواردة في السور الثمانية الأولى: من البقرة إلى التوبة، ثم أوجز في باقي السور تبعاً لما تحمله كل سورة من مضامين فقهية.
وفي إيراده للأحكام الفقهية التي جمعها اقتصر على ما هو أظهر تعلقاً، وأبين استنباطاً، حتى تكون مسباراً لغيرها، ودليلا على مأخذ سواها، وعمل جاهداً على بيان اختلاف أهل العلم في المسائل الفقهية ليتجلى لطالب العلم ما اتفقوا عليه من الأحكام، وما اختلفوا فيه، فالفائدة العظمى في معرفة هذا الأمر: «أن يعرف الإنسان منها أدلة الشرع واحتمالاته، فإن أهل العلم ما اختلفوا في شيء إلا عن أدلة تعارضت، واحتمالات تخالفت، فقوي عند أحدهم دليل واحتمال لم يقو عند الآخر». كما أن انصافه وبُعده عن التعصب كان جلياً؛ إذ مع كونه شيخ المالكية في زمانه، بل ومن المحققين في المذهب لم يتردد أن يرجح رأي أبي حنيفة، ونظر الشافعي، أو غيرهما، كلما ظهر له الدليل، وقويت عنده الحجة.
والإمام ابن الفرس كغيره من أئمة التفسير الفقهي ضَمَّن كتابه جملة من القواعد الأصولية والفقهية، بل إنه جاوز ذلك إلى الفروع والمسائل التفصيلية في كثير من المناسبات، ولا يخلو تفسيره كذلك من إشارات حديثية مفيدة، وتلميحات لغوية قيمة، وترجيحات واجتهادات تَنم عن فكر نير، وعمق في فهم النصوص، واستخراج لمكنونها، كما ساق جملا مفيدة من أسباب النزول، وإشارات لطيفة من علم الناسخ والمنسوخ حتى تكمل وتتم بهما الفائدة؛ لأنهما علمان ضروريان لاستخراج الأحكام الفقهية من النصوص الشرعية.
وبالجملة فإن أحكام القرآن لابن الفرس موسوعة فقهية وأصولية لا يستغني عنها باحث أو فقيه مالكي، والكتاب يمتاز بنصاعة العبارة، ووضوحها، وابتعاد عن التعقيد في سوق المباحث وعرض الآراء، مع عناية بالنقد والترجيح، وكذا الاستدلال على المسائل كلما سنحت بذلك الفرصة.
أما عن المصادر التي استقى منها الإمام ابن الفرس مادته، فإنه وبالرغم من اعتزازه بما جمع، ووصف مأخذه بأنه لم يسبق إليه، إلا أن انتهاله من كتب من سبقه من أئمة المالكية في موضوعه أمر محتوم، ككتاب أحكام القرآن للقاضي إسماعيل البغدادي (ت 282هـ)، وكتاب أحكام القرآن لمحمد بن بكير البغدادي (ت 305هـ)، وكتاب أحكام القرآن لقاسم بن أصبغ البيّاني القرطبي (ت 340هـ)، وكتاب أحكام القرآن للحافظ العلامة أبي بكر ابن العربي (ت 543هـ)، وغيرهم.
ومما يجلي منزلة هذا الكتاب وعظيم فائدته أن مترجمي مؤلفه الإمام ابن الفرس لايغفلون ذكره، بل ينسبونه إليه وينوهون به، ففيه يقول الحافظ ابن الأبار القضاعي (ت 658هـ): «وألف كتاباً في أحكام القرآن جليل الفائدة من أحسن ما وضع في ذلك، قد رأيته ورويته عن بعض أصحابه»، وقال فيه الحافظ ابن الزبير الغرناطي (ت708هـ): «كتاب الأحكام ألفه وهو ابن خمسة وعشرين عاماً، فاستوفى ووفّى».
والكتاب أيضاً مصدر فقهي مالكي لمن جاء بعد ابن الفرس، فنجد نقول عديدة عنه في كتب فقهية مالكية كمواهب الجليل: (1/ 79 - 101 - 213)، و (2/ 473 - 496)، و (3/ 8 - 9 - 319)، ومنح الجليل: (1/ 40 - 51)، و (6/ 121 - 388)، وشرح مختصر خليل للخرشي: (1/ 90 - 408)، وغيرهم.
وقد حظي الإمام ابن الفرس وكتابه أحكام القرآن بدراسات حديثة بلغت سبعاً، إحداها لنيل دكتوراه الدولة، وست لنيل دبلوم الدراسات العليا، ورسائل أخرى بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، كما تناوله الباحث محمد بن عبد الوهاب أبياط في دراسة بعنوان: «أصول الفقه عند ابن الفرس ومنهج إعماله في التفسير من خلال كتابه أحكام القرآن»، وطبعتها دار ابن حزم.
وقد طبع الكتاب أول مرة بدار الجماهيرية للنشر والتوزيع والإعلان عام 1989م، إلا أنها طبعة غير تامة، وطبعته مؤخراً بتمامه دار ابن حزم ببيروت، الطبعة الأولى: 1427هـ/2006م، في ثلاث مجلدات، الجزء الأول: بتحقيق الدكتور طه بن علي بوسريح، من سورة الفاتحة إلى نهاية البقرة، والجزء الثاني: بتحقيق الدكتورة منجية بنت الهادي النفزي السوايحي، من سورة آل عمران إلى سورة المائدة، والجزء الثالث: بتحقيق الدكتور صلاح الدين بو عفيف، من سورة الأنعام إلى نهاية القرآن، وأصل هذا التحقيق للكتاب كان ثلاث رسائل للدكتوراه قدمت لكلية الشريعة وأصول الدين، بجامعة الزيتونة، بتونس.
ـ[د على رمضان]ــــــــ[04 Jul 2010, 01:53 م]ـ
جزاكم الله خيرا وبارك فيكم ونفع بكم، هل من الممكن أن تمدونا بالخطوط العريضة لموضوع (أصول الفقه عند ابن الفرس ومنهج إعماله في التفسير من خلال كتابه أحكام القرآن) وجزاكم الله خيرا
¥