إنَّ لهذه الرسالة قصَّةًً طويلةً .. ،نكتب بعضها هنا تحدُّثاً بنعمة الله تعالى، وشُكْرَاناً له سبحانه أن أحيا هذه الرسالة بعد موتها، تذكيراً بمشيئته البالغة، وقدرته الغالبة، وسننه الصارمة، التي لا تتبدل ولا تتحول عبر التاريخ كله، والتي فيها غاية العظة والاعتبار لمن تفكر وتدبر، وعقل عن ربه أمره الكريم:) فاعتبروا يا أولي الأبصار (الحشر 2.
تبدأ هذه القصة حين فرغت من الدراسات العليا بجامعة الأزهر، وشرَعْتُ في تحضير موضوعٍٍ لرسالتي العلمية، في وقتٍ عصيبٍ رهيب: (1384هـ،1964م)، كان الطغيان الحقود قد بلغ فيه غاية الصلف والغرور، والاستكبار والاستهتار، وأخذ يستجلب لأمتنا أنكد مذاهب الإلحاد والإفساد، ويقودها إلى ُكلِّ دروب الكفر والفسوق والعصيان، خاصةًً بعد أن سَحِق طلائع الحركة الإسلامية العالمية سَحقاً دنيئاً غادراً، لم يرع خلاله خُلُقاً ولا ديناً، ولم يرقُب معه في مؤمنٍ إلاً ولا ذمَّةً!!!.
في هذه الظروف سجلتُ رسالتي في كلية (أصول الدين) بالقاهرة –ولم يكن في الدولةِ آنئذٍ غيرها-، وكانت موضوعاً دينياً هادئاً في ظاهره، ولكني كنتُ قد عزمت العزم على هدفٍ أوضح من الشمس في نفسي، هو أن اجعلَ من هذه الرسالة منازلةً علمية لكل ما جلبه الطغيان من مناهج، ومذاهب، وأفكارٍ موغلةٍ في الضلال والبُطلان، يراد بها صرفُ المسلمين عن منهاج ربهم، بعدما تبين من عظمته وشموله، وتفرده بغاية الكمال والتمام في كل شئون الحياة، أقبلت أجمع مراجع الرسالة، واستخرج منها مادتها العلمية، وأرتبها في مواضعها، نحو سنةٍ أو أكثر، حتى قطعت شوطاً طويلاً في ذلك، قبل أن تهب علينا العاصفة الطاغية، ذات صيف مرير هائل.
كان ذلك حين عاد الطاغية الحقودُ- فجأة- إلى شن حربٍ ضارية على دعاة الإسلام ورجاله جميعاً، (سنة 1385هـ، 1965م) بعدما تأكد له أنَّ جرائمه الفاحشة طوال عشر سنوات سابقة، لم تُفْلح في خلع جذور الإسلام من القلوب والعقول، بل لم تزده المحن الهائلة إلا رسوخاً وأمتددً بفضل الله وعنايته.
ولقد بلغ الطاغية غاية السفه والعمى جميعا، حين اختار عاصمة الإلحاد الشيوعي (موسكو) ليعلن منها هذه الحرب الدنسة، وليقدم المؤمنين والمؤمنات قربانا يترضى به أئمة الكفر في الشرق والغرب على سواء، مجددا جرائمه في تلفيق الاتهامات، ثم سوق آلاف الرجال والنساء والولدان بها إلى أعماق السجون والمنافي، وقتل العديد من أنبل دعاة الإسلام ورجاله، على أعواد المشانق، بعد محاكمات عسكرية هزلية، أو تحت سياط التعذيب الرهيب!!
وامتدت العاصفة المجنونة تأكل الرجال والنساء، والبيوت والأسر، والقيم والأخلاق، والمال والمتاع، والكتب والرسائل، والمطبوع والمخطوط، والمستور والمنشور!!!
وسارع الناس –تحت وطأة الرعب الهائل- إلى التخلص من كل كتاب أو مجلة ذات صلة بالدعوة الإسلامية المعاصرة، أما أعوان الطاغية الأرعن فقد استباحوا مصادرة كل شيء، خاصة الكتب والرسائل الإسلامية، حيث جمعوا منها تلالا بالغة، ثم أحرقوها، أو أغرقوها بعد ذلك في مياه المجاري النجسة حول القاهرة، على أسوأ مما فعل التتار قديما في بغداد!!!
وهكذا ضاعت كتبي والأصول الأولى لهذه الرسالة، ثم كان نصيب صاحبها وإخوانه من جنون الطاغية وأعوانه أدهى وأمر، سواء في السجون الحربية، أو المحاكم العسكرية الهمجية، والتي صارت مضرب الأمثال في امتهان الحق والعدل، حيث كان التدين عند قضاتها جناية، والدعوة إلى الإسلام خيانة، وصلاة الجماعة مؤامرة، وتحريم الحرام تخلفاً وجهالة، ومواجهة الإلحاد الزاحف على أمتنا ثورة مضادة تستحق -في إفكهم- الإبادة الشاملة، والحكم بالإعدام، أو السجن المؤبد، ونحو ذلك من المظالم الصارخة!!!
ظنَّ الطاغيةُ الأحمق وأعوانه أنهم قالوا الكلمة الأخيرة في ملحمة الصراع بين الحق والباطل، حين ألقوا بنا وراء الأسوار، وأسدلوا علينا الستار حتى نهاية الأعمار، كما كانوا يزعمون!!!
¥