تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وأراد الله تعالى غيرَ ما أرادوا، فسلك بنا –بفضله- طريقَ أصحابِ الدعوات، واتخذ منا الشهداء، ووضع الأحياء على مد ارج التربية والتكوين، التي وضع عليها المؤمنين والمؤمنات عْبرَ التاريخ، وكفى مثلا بيوسف السجين، وهو الكريم ابن الكرام عليهم السلام، وتلك سنَّة الله عز وجل في أهل الإيمان، أن يُجَرِّبوا حياة الخوف والمحنة، والأذى والفتنة، والانتظار والترقب، والصبر والمطاولة، حتى يأتي اللهُ بالفتحِ أو أمْرٍ من عنده.

أو ليس في مثل هذا الجو العاصف تنزََّلَ القرآن العظيم؟ وفي مثل هذا المُناخِ اللاّهبِ تتابعت آياته تُعَبِّدُ القلوبَ للهِ الواحدِ القهار؟ وتؤجِّجُ الإيمانَ في ضمائرِ المؤمنين ليتابعوا الصبرَ والثبات، والدعوةَ والبلاغ، حتى يُخْرِجُوا الناس من عبادة العبيد إلى عبادة الله وحده، مع تنديدها الدائم بالجاهلية، ومقارعتها للوثنية، وزجرها لأكابر مجرميها ومترفيها الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا؟!.

بل جاءت الآيات الكريمة تُحَرِّضُ المستضعفين وتستنهض همتهم حتى يستخرجوا أنفسهم من هيمنة الطواغيت الفجرة، وليخلعوا آثارهم خلعا من قلوبهم وواقع حياتهم، وإلا فلا عذرَ لهم يوم تُقَلَّبُ وجوهُهُمْ في النار مع المستكبرين المترفين) ِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (الأحزاب66

وَأَنَّى لِأِحدٍ أن يُحيطَ بأبعاد هذه التربية الهائلة على حقيقتها، إلا إذا َمرَّ بتجربة أصحابها؟ "وليس الخبر كالمعاينة"، وما راءٍ كمن سمع"، ولقد كان ما رأيناه -رغم مرارته- ِمنْحَةً في طَيَّاتِ ِمحْنةٍ، بل ِنعْمةً عُظْمَى من نعم الله عز وجل:) وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون (العنكبوت:43.

وحين َمنَّ الله تعالى بكتابةِ هذه الرسالة مرةً أخرى بعد سنوات، فإنها اكتسبت بفضل الله عز وجل روحا وأبعادا جديدة، ما كانت لتصل إليها إلا عَبْرَ هذه التجارب الهائلة، فلم تعد مجرد رسالة علمية تخصصية، وإنما صارت مع ذلك صيحةَ عملٍ وجهاد من قلب العاصفة ذاتها، ورسالةَ دعوة وبلاغٍ بحالها ومقالها، وبما تجلى لنا من حقائق واقعية، شاهدة ومؤكدة أن هذا (المنهاج الإلهي) -الذي آمنا به- هو الحق المتفرد من عند الله، وأنه الطريق الفذ لخيريَ الدنيا والآخرة جميعا، وما عداه زَبدٌ باطلٌ يذهب جفاءً مهما حشد الناس له من بريق السلطان، وزخرف المنافع، وألسنة النفاق، وطنين الأسماء والألفاظ، كالقانون، والدستور، والميثاق، وأمثالها من دعاوى الزيف التي أضلت البشرَ طوال التاريخ، والتي ما بُعِث الرسلُ عليهم السلام إلا لمقارعتها، وإنقاذ الناس من شرورها، وإعادتهم إلى صراط الله العزيز الحميد، وما أعظم وأجل كلمات القرآن الكريم الذي يقص علينا صيحة يوسف uوهو في سجن الفراعنة الأقدمين:) ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان، إن الحكم إلا لله، أمر ألا تعبدوا إلا إياه، ذلك الدين القيم، ولكن أكثر الناس لا يعلمون (يوسف 40.

لم تمض إلا سنوات معدودة حتى رأينا سنن الله الصارمة في الذين اتخذوا دين الله هُزُوًا ولعبا، فأهلك الله عز وجل الطاغية بعاره وأوزاره، وبما جرَّهُ على أمتنا من المظالم والهزائم، خاصة أمام القردة والخنازير من بني إسرائيل، وما تبع ذلك من تمزيق الجيوش، وضياع البلاد والعباد، وإسقاط المسجد الأقصى في قبضة المغضوب عليهم!!

ثم بدا لخُلَفاءِ الطاغية -من بعد ما رأوا الآيات والنذر- أن ُيبْقُونا في السجن بضع سنين، وشاء الله عز وجل أن أستأنف في هذه الفترة كتابة َهذه الرسالة من جديد، وقد أمد الله تعالى عبده بفضله، فتمَّ إنجازها خلال عام 1394هـ، 1973م، رغم صعوبة الواقع، وقلة المراجع، وترقب المجهول .... !!!

ثم عكفت على تبيضها بعد اختصارها، عملا بنصيحة أستاذنا المشرف رحمه الله [1]، كسبا للوقت، وتحسبا للأحداث المجهولة، وكنا جميعا نقدر أنها ستكون أول رسالة (دكتوراه) تقدم للمناقشة من داخل السجون، ولكن إرادة الله تعالى سبقت كل تقدير، فقد أذن بخروجنا من السجن في 12من ربيع الأول 1395هـ، 1975م، فأتممت تبيض الرسالة ونسخها، ثم جرت مناقشتها في قاعة الشيخ محمد عبده بجامعة الأزهر في 10من رمضان المبارك 1395هـ،15من أيلول (سبتمبر) 1975م، والحمد الله رب العالمين.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير