لكن من حصر العلم بطريق عينه هو مثل واحد معين ودليل معين أخطأ كثيرا كما أن من قال: إن حد غيره ودليله لا يفيد بحال أخطأ كثيرا وهذا كما أن الذين أوجبوا النظر وقالوا: لا يحصل العلم إلا به مطلقا أخطأوا والذين قالوا: لا حاجة إليه بحال بل المعرفة دائما ضرورية لكل أحد في كل حال أخطأوا بل المعرفة / وإن كانت ضرورية في حق أهل الفطر السليمة فكثير من الناس يحتاج فيها إلى النظر والإنسان قد يستغني عنه في حال ويحتاج إليه في حال وكذلك الحدود قد يحتاج إليها تارة ويتغنى عنها أخرى كالحدود اللفظية والترجمة قد يحتاج إليها تارة وقد يستغنى عنها أخرى وهذا له نظائر
304
وكذلك كون العلم ضروريا ونظريا والاعتقاد قطعيا وظنيا أمور نسبية فقد يكون الشيء قطعيا عند شخص وفي حال وهو عند آخر وفي حال أخرى مجهول فضلا عن أن يكون مظنونا وقد يكون الشيء ضروريا لشخص وفي حال ونظريا لشخص آخر وفي حال أخرى
وأما ما أخبر به الرسول فإنه حق في نفسه لا يختلف باختلاف عقائد الناس وأحوالهم فهو الحق الذي لا يقبل النقيض ولهذا كل ما عارضه فهو باطل مطلقا
ومن هنا يتبين لك أن الذين بنوا أمورهم على مقدمات إما ضرورية أو نظرية أو قطعية أو ظنية بنوها على أمور تقبل التغير والاستحالة فإن القلوب بيد الله يقلبها كيف يشاء وأما ما جاء به الرسول فهو حق لا يقبل النقيض بحال
308
وقد سئل بعض السالكين طريقة هؤلاء كالرازي ونحوه فقيل له: لم لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم عند هذا الوسواس بالبرهان المبين لفساد التسلسل والدور بل أمر الاستعاذة؟ فأجاب بأن مثل هذا مثل من عرض له كلب ينبح عليه ليؤذيه ويقطع طريقة فتارة يضربه بعصا وتارة يطلب من صاحب الكلب أن يزجره قال فالبرهان هو الطريق الأول وفيه صعوبة والاستعاذة بالله هو الثاني وهو أسهل
واعترض بعضهم على هذا الجواب بأن هذا يقتضي أن طريقة البرهان أقوى وأكمل وليس الأمر كذلك بل طريقة الاستعاذة أكمل وأقوى فإن دفع الله للوسواس عن القلب أكمل من دفع الإنسان ذلك عن نفسه
فيقال: السؤال باطل وكل من جوابيه مبني على الباطل فهو باطل وذلك أن هذا الكلام مبناه على أن هذه الأسئلة الواردة على النفس تندفع بطريقين أحدهما البرهان والآخر الاستعاذة وأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالاستعاذة وأن المبين لفساد الدور والتسلسل قطعه بطريق البرهان وأن طريقة البرهان تقطع الأسولة الواردة على النفس بدون ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بطريقة البرهان.
وهذا خطأ من وجوه بل النبي صلى الله عليه وسلم أمر بطريقة البرهان حيث يؤمر بها ودل على مجاميع البراهين التي يرجع إليها غاية / نظر النظار ودل من البراهين على ما هو فوق استنباط النظار والذي أمر به في دفع هذا الوسواس [ليس] هو الاستعاذة فقط بل أمر بالإيمان وأمر بالاستعاذة وأمر بالانتهاء ولا طريق إلى نيل المطلوب من النجاة والسعادة إلا بما أمر به لا طريق غير ذلك
310
والشبهات القادحة في تلك العلوم لا يمكن الجواب عنها بالبرهان لأن غاية البرهان أن ينتهي إليها فإذا وقع الشك فيها انقطع طريق النظر والبحث ولهذا كان من أنكر العلوم الحسية والضرورية لم يناظر بل إذا كان جاحدا معاندا عوقب حتى يعترف بالحق وإن كان غالطا إما لفساد عرض لحسه أو عقله لعجزه عن فهم تلك العلوم وإما لنحو ذلك فإنه يعالج بما يوجب حصول شروط العلم له وانتفاء موانعه فإن عجز عن ذلك لفساد في طبيعته عولج بالأدوية الطبيعية أو بالدعاء والرقي والتوجه ونحو ذلك وإلا ترك
ولهذا اتفق العقلاء على أن كل شبهة تعرض لا يمكن إزالتها بالبرهان والنظر والاستدلال وإنما يخاطب بالبرهان والنظر والاستدلال من كانت عنده مقدمات علمية وكان ممن يمكنه أن ينظر فيها نظرا يفيده العلم بغيرها فمن لم يكن عنده مقدمات علمية أو لم يكن قادرا على النظر لم تمكن مخاطبتة بالنظر والاستدلال
/ وإذا تبين هذا فالوسوسة والشبهة القادحة في العلوم الضرورية لا تُزال بالبرهان بل متى فكر العبد ونظر ازداد ورودها على قلبه وقد يغلبه الوسواس حتى يعجز عن دفعه عن نفسه كما يعجز عن حل الشبهة السوفسطائية
وهذا يزول بالاستعاذة بالله
318
¥