ومعلوم أن الباطل ليس له حد محدود، فلا يجب أن يخطر ببال أهل العقل والدين كل باطل، وأن يردوه، فإن هذا لا نهاية له، بخلاف ما هو حق معلوم بصريح العقل في حق الله تعالى، لا سيما إذا كان مما يجب اعتقاده، بل يتوقف تصديق الرسول على معرفته، فإن هذا يمتنع أن تكون العصور الفاضلة مع كثرة أهلها وفضلهم عقلا ودينا لم يعلموها ولم يقولوها.
77
ولهذا لم تظهر في أمة من الأمم أقوال باطلة إلا كان فيهم من يعرف بطلان ذلك، فيتكلم بذلك مع من يثق به وإن وافق في الظاهر لغرض من الأغراض.
ولهذا تجد خلقا من الرافضة والإسماعيلية والنصيرية يعلمون في الباطن فساد قولهم ويتكلمون بذلك مع من يثقون به.
وكذلك بين النصارى خلق عظيم يعلمون فساد قول النصارى وكذلك بين اليهود.
وهذه الأمة قد كان فيها في القرون الثلاثة منافقون لا يعلم عددهم إلا الله، وقد جاورهم من المشركين وأهل الكتاب أمم أخر، وهم طوائف متباينة، فما يمكن أحدا أن ينقل أنه كان قبل الجعد بن درهم وجهم بن صفوان من ظهر عنه القول بأن العقول تنافي ما في القرآن من إثبات العلو والصفات، أو بعض الصفات، لا من المؤمنين ولا من أهل الكتاب ولا من سائر الكافرين.
[هذا فيه رد على من زعم أن من السلف من يقول: إن الشرع قد يأتي بما يناقض العقل!]
79
وقد ذكروا أن / أساطين الفلاسفة كفيثاغورس وسقراط وأفلاطن قدموا الشام وتعلموا الحكمة من لقمان وأصحاب داود وسليمان.
80
ومن اعتبر الأمور وجد الرجل يصنف كتابا في طب وحساب أو نحو أو فقه أو ينشئ خطبة أو رسالة أو ينظم قصيدة أو أرجوزة فيلحن فيه لحنة أو يغلط في المعنى غلطة، فلا يسكت الناس حتى يتكلموا فيه ويبينوا ذلك، ويخرجون من الحق إلى زيادة من الباطل وإن كان صاحب ذلك الكلام لا يدعوهم إلى طاعته واستتباعه ويذم من يخالفه فضلا عن أن يكفره ويبيح قتاله وشتمه، فإذا كان الذي جاء بالقرآن ودعا الناس إلى طاعته واستتباعه وأن يكون هو المطاع الذي لا ينبغي مخالفته في شيء دق ولا جل ويقول: إن السعادة لمن أطاعه والشقاء لمن خالفه ويعظم مطيعيه ويعدهم بكل خير ويلعن مخالفيه ويبيح دماءهم وأموالهم وحريمهم، فمن المعلوم أن مثل هذه الدعوى لا يدعيها إلا أكمل الناس وأحقهم بها، وهم الرسول الصادقون أو أكذب الناس وأبعدهم عنها كالمتنبئين الكاذبين، / ومعلوم أن صاحب هذه الدعوة تعاديه النفوس وتحسده، كما قال ورقة بن نوفل .... ومعلوم أن أعداء من يقول مثل هذا إذا كان المفهوم من كلامه والظاهر من خطابه هو كذب على الله ووصفه بما يجب تنزيهه عنه وبما يعلم بصريح العقل أن الله منزه عنه وأنه من وصفه بذلك كان قائلا من التشبيه والتجسيم بما يخالف صريح العقل بل يكون صاحبه كافرا كاذبا مفتريا على الله، كان هذا من أعظم ما تتوفر الهمم والدواعي على معارضته به والطعن في ذلك والقدح في نبوته به.
83
ومن المعلوم أن أخبار الصادقين وشهاداتهم وإثباتاتهم تتعاون وتتعاضد وتتناصر وتتساعد، لا تتناقض ولا تتعارض، وإن قدر أن / أحدهم يغلط خطأ أو يكذب أحيانا، فلا بد أن يظهر خطؤه وكذبه، وهذا مما استقراه الناس في أحاديث المحدثين للأحاديث النبوية، لا يعرف أن أحدا منهم غلط أو كذب إلا وظهر لأهل صناعته كذبه أو خطؤه.
وكذلك الناظرون أهل النظر والاستدلال في الأدلة السمعية أو العقلية ما يكاد يغلط غالط منهم إلا ويعرف الناس غلطه من أبناء جنسه وغيرهم.
88
ومن المعلوم لمن له عناية بالقرآن [كذا] أن جمهور اليهود لا تقول إن عزير [ا ا] بن الله، وإنما قاله طائفة منهم، كما قد نقل أنه قاله فنحاص بن / عازورا، أو هو وغيره.
وبالجملة إن قائلي ذلك من اليهود قليل، ولكن الخبر عن الجنس.
[يشير إلى قوله تعالى: {وقالت اليهود عزير ابن الله}، ومن هذا الباب أيضا {كذبت قوم نوح المرسلين} أي جنس المرسلين]
94
¥