ومن المعلوم عند أهل الكتاب أن قدماءهم لم يكونوا ينكرون ما في التوراة من الصفات، وإنما حدث فيهم بعد ذلك لما صار فيهم جهمية: إما متفلسفة مثل موسى بن ميمون وأمثاله، وإما معتزلة مثل أبي يعقوب البصير وأمثاله، فإن اليهود لهم بالمعتزلة اتصال وبينهما اشتباه، ولهذا كانت اليهود تقرأ الأصول الخمسة التي للمعتزلة ويتكلمون في أصول اليهود بما يشابه كلام المعتزلة، كما أن كثيرا من زهاد الصوفية يشبه النصارى ويسلك في زهده وعبادته من الشرك والرهبانية ما يشبه سلوك النصارى
97
ولهذا أثبت الأشعري الصفات الخبرية بالسمع، وأثبت بالعقل الصفات العقلية التي تعلم بالعقل والسمع، فلم يثبت بالعقل ما جعله معارضا للسمع، بل ما جعله معاضدا له، وأثبت بالسمع ما عجز عنه بالعقل.
97
والذي كان أئمة السنة ينكرونه على ابن كلاب والأشعري بقايا من التجهم والاعتزال؛ مثل اعتقاد صحة طريقة الأعراض وتركيب الأجسام وإنكار اتصاف الله بالأفعال القائمة التي يشاؤها ويختارها وأمثال ذلك من المسائل التي أشكلت على من كان أعلم من الأشعري بالسنة والحديث وأقوال السلف والأئمة كالحارث المحاسبي وأبي علي الثقفي وأبي بكر بن إسحاق الصبغي مع أنه قد قيل: إن / الحارث رجع عن ذلك وذكر عنه غير واحد ما يقتضي الرجوع عن ذلك، وكذلك الصبغي والثقفي قد روي أنهما استتيبا فتابا.
106
المعتزلة لما نصروا الإسلام في مواطن كثيرة وردوا على الكفار بحجج عقلية، لم يكن أصل دينهم تكذيب الرسول ورد أخباره ونصوصه، لكن احتجوا بحجج عقلية إما ابتدعوها من تلقاء أنفسهم وإما تلقوها عمن احتج بها من غير أهل الإسلام فاحتاجوا أن يطردوا أصول أقوالهم التي احتجوا بها لتسلم عن النقص [النقض] والفساد فوقعوا في أنواع من رد معاني الأخبار الإلهية وتكذيب الأحاديث النبوية.
118
يؤيد هذا أنهم يقولون: اللفظ المشهور في اللغة الذي يتداوله الخاص والعام لا يجوز أن يكون موضوعا بإزاء المعنى الدقيق الذي لا يفهمه إلا خواص الناس، وهذا مما استدل به نفاة الأحوال على مثبتيها وقالوا: المعروف في اللغة أن الحركة هي كون الجسم متحركا، وأما ما يدعونه من أن الحركة أمر يوجب كون الجسم متحركا فهذا المعنى لا يفهمه إلا الخاصة، فضلا عن أن يعلموا أن لفظ الحركة موضوع له.
123
دلالة الخطاب إنما تكون بلغة المتكلم وعادته المعروفة في خطابه، لا بلغة وعادة واصطلاح أحدثه قوم آخرون بعد انقراض عصره وعصر الذين خاطبهم بلغته وعادته
139
ولهذا تجد كثيرا من هؤلاء النفاة يصنف في الشرك والسحر وعبادة الكواكب والأوثان، وفي النفاق والزندقة التي توجد في كلام كثير من الفلاسفة وغيرهم، بل يخضع لهؤلاء الكفار والمنافقين ويذل لهم، ويريد أن يعلو على المؤمنين ويقهرهم، وإن كان هذا بسبب ضعف من قاتله من المؤمنين وتفريطهم وعداوتهم، كما أن قهر أولئك الكفار له كان بسبب ضعفه الحاصل من تفريطه وعدوانه فالذم لاحق له بقدر ما فرط فيه من حقوق الله وتعداه من حرمات
147
هجران أحمد للحارث لم يكن لهذا السبب الذي ذكره أبو حامد [يقصد قوله: ألست تحكي بدعتهم]، وإنما هجره لأنه كان على قول ابن كلاب الذي وافق المعتزلة / على صحة طريق الحركات وصحة طريق التركيب، ولم يوافقهم على نفي الصفات مطلقا، بل كان هو وأصحابه يثبتون أن الله فوق الخلق عال على العالم موصوف بالصفات، ويقررون ذلك بالعقل وإن كان مضمون مذهبه نفي ما يقوم بذات الله تعالى من الأفعال وغيرها مما يتعلق بمشيئته واختياره، وعلى ذلك بنى كلامه في مسألة القرآن.
148
ثم ذكر غير واحد أن الحارث رجع عن ذلك كما ذكره معمر بن زياد في أخبار / شيوخ أهل المعرفة والتصوف، وذكر أبو بكر الكلاباذي في كتاب التعرف لمذاهب التصوف عن الحارث المحاسبي أنه كان يقول: إن الله يتكلم بصوت، وهذا يناقض قول ابن كلاب.
149
وأبو حامد ليس له من الخبرة بالآثار النبوية والسلفية ما لأهل المعرفة بذلك، الذين يميزون بين صحيحه وسقيمه، ولهذا يذكر في كتبه من الأحاديث والآثار الموضوعة والمكذوبة ما لو علم أنها موضوعة لم يذكرها.
153
¥