والمحبة والكلام صفتان فعليتان، وهما اللتان أعلن الجعد بن درهم إنكارهما في مقالته التي عبر عنها قاتله خالد بن عبدالله القسري بعبارته الشهيرة: إنَّ هذا زعم أن الله لم يكلم موسى تكليماً، ولم يتخذ إبراهيم خليلاً، تعالى الله عما يقول علواً كبيراً ..
والجعد كان معلم مروان بن محمد بن مروان بن الحكم بن أبي العاص آخر ملوك بني أمية، وقد كان ظهور مقالته هذه من أمارات انخرامها ..
(5)
وقام بعده في مقالة النفي هذه جهم بن صفوان مولى بني راسب، فجدد وطور ووسع وزاد واستفحلت به مقالة النفي؛ واشتهرت به منذ ابتداء ظهور دعوة بني العباس ثم استتباب ملكهم حتى نسبت إليه، وصار القائلون بها والمائلون إليها ينسبون إليه ..
وكان الجهم متكلما مثقفاً بثقافة عصره مغرماً بالجدال مع أهل الملل، وجاءه البلاء من فرط فضوله بالخوض في أمر الدين والغيب خاصة بمحض الرأي، وقد كان في المتكلمين من أهل عصره من يرد عليه ومنهم من ينتمي بفكره إليه وإن لم يتتلمذ له التلمذة العرفية ..
وقد كانت المعتزلة الذين نبغ أوائل متكلميهم القدرية في زمن جهم لا يوغلون في النفي إيغاله بل قد يردون عليه بعض قوله أو كثيراً منه ... ، ويقولون إن البراهين العقلية لا تقتضي كل هذا النفي الذي ذهب إليه مع مناقضتها للمعلوم القطعي من دين الإسلام ..
(6)
وأهل الكلام لا يرون التقليد إجمالاً، بل عماد أمرهم النظر والرأي والاستقلال فيه عن الوحي فكيف عن آراء الناس، ولهذا قل عندهم الاتفاق والإجماع، وصار جل ما يخوضون فيه مثار اختلاف بينهم .. والطائفة منهم إن اتفقت على أصل تناقضت في غيره أو في تفاصيله ... فكثر انشعاب الفرق من الفرقة الواحدة ... وكل من لم يعتصم بحبل الله تفرق ... وعند انعدام النور تأتي الظلمات ... فالنور واحد يجمع والظلمات كثيرة تفرق ..
والحاصل أنَّ المتكلمون في زمن جهم وبعده منهم من وافقه على أصل قوله وهؤلاء منهم من طرد مقالته ووسعها وبالغ في التزام لوازمها حتى انتهى إلى التعطيل الصريح أو ما يشبهه مما يعلم كل عاقل أنه تعطيل وأن صاحبه لم يترك التصريح به لعدم اعتقاده به ولكن لرغبة أو رهبة ..
ومن المتكلمين الذين وافقوه في أصل المقالة من ضيق دائرتها وحصرها في الصفات دون الأسماء ككثير من المعتزلة ..
وفرقان المعتزلة من الجهمية مسألة الجبر والقدر، فجهم أعلن الجبر وحمل لواءه، والمعتزلة هم القدرية النفاة
ومن المتكلمين من جمع بين نفي الصفات ونفي القدر وهؤلاء أبلغ في التعطيل وأظهر ..
وإن كان مآل التجهم متردداً بين صريح التعطيل وبين مقالة الحلول والاتحاد ..
والذين امتحن بهم الإمام أحمد هم المتجهمة في باب الصفات، وهم طوائف ..
وظهر في وقت المحنة وبسببها من المتكلمين من كان يميل إلى أهل السنة والحديث والأثر وعقائد عموم الملسمين التي تلائم الفطرة فكانوا يناظرون النفاة على أصول الكلام التي شاعت بينهم وقبلوا بها فأداهم ذلك إلى الجمع بين مادتين متناقضتين من النفي والإثبات ..
(7)
والنفي من حيث هو ليس باطلاً بإطلاق، بل لا يتم الإسلام ولا يصح عقده إلا بنفي وأول كلمة يدخل بها الإنسان في الإسلام حرف نفي (لا) إله إلا الله ..
والإثبات مؤسس على هذا النفي الشرعي ...
والخلاف بين أهل السنة وأهل الأهواء ليس في مطلق النفي أو مطلق الإثبات، بل في حقيقتهما
فأهل السنة تبع لمحض الوحي في النفي والإثبات يحرمون الخوض بالرأي في أمور الغيب، وهذا عين المعقول لأن ما غاب عن العقول لا يقبل العقل المحرر من خبث الإرادة أن يحكم فيه بشيء، والعقل الحر المعافى إنما يبني حكمه بالإثبات والنفي على العلم المقتضي لأحد الأمرين، ومتى انتفى هذا العلم توقف عن الحكم ..
وإنما الخوض في الأمور من غير علم صفة من لا يعقل وإن كان يفكر، فليس كل من يفكر يفكر بعقل ..
بل العقل زمام الفكر، فإن انطلق الفكر من زمام العقل خبط خبط عشواء ...
فالعقل ليس هو الفكر أو الرأي أو النظر بل العقل أمر متحكم فيهما ضابط لهما على مقتضى العلم والحكمة ...
ولهذا جاء مدح العقل بإطلاق في الكتاب والسنة، بخلاف الفكر والرأي والنظر فإنها تنقسم إلى محمود ومذموم
وآفة أهل الأهواء أنهم انتصاراً لأهوائهم يسمون فكرهم ورأيهم ونظرهم عقلاً ...
كما يسمي المبتدعة في الأبواب العملية بدعهم قرباً وطاعات وديناً وشريعة ...
¥