وهذه الأمور ليست كنوزًا مجهولةً مدفونة في أمّهات الكتب، بل هي معروفة ومنشورة ومشتهرة عند طلاب العلم، يَدرُسونها ويُدرِّسونها، لكنهم يفهمون المقصود منها فهمًا صحيحًا.
ثانيا: إذا ثبت أن التبرك بآثار النبي صلى الله عليه وآله وسلم مشروع؛ فلا بد من التنبه للنتيجة العملية الواقعية للمسألة، وهي: هل بقي للمسألة وجود في الواقع؟ بمعنى: هل يثبت الآن صحة أي أثر من الآثار التي يُقال إنها من الآثار النبوية؟ ذلك لأن المسألة شرعية، فلا بد من التثبت فيما يُقال إنه من آثار النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فنحن أمة إسناد وتثبت، وكما جاء الوعيد في نسبة القول الذي لم يقله الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إليه؛ فكذا الأمر في نسبة فعلٍ أو أثرٍ له وهو ليس كذلك، وكما يُعرفُ ثبوت الحديث الشريف بأدلة وضوابط حدَّها علماء الحديث الأجلاء، فكذا لا بد من ثبوت ما يُزعم أنه من آثار النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأدلة وبراهين، و إلا جاز أن يَنسِبَ كلُّ أحدٍ إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما يشاء من الآثار والأغراض للاتجار، أو نحوه من الأسباب.
فالكذبُ على النبي صلى الله عليه وآله وسلم جريمة شنيعة، وموبقة عظيمة، وكما كُذِبَ على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله وفعله وفي الانتساب إلى نسبه الشريف: كذلك كُذِبَ عليه بادعاء آثارٍ له، وهي ليست كذلك في الحقيقة.
فالذي عليه العلماء المحققون سواءً المحدّثين المتثبتين أو حتى الآثاريين أنه لا يثبت شيء من ذلك اليوم! كما ستأتي النقول.
وقد كان الذين كانوا يملكون شيئًا من آثار النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ضنينين بما عندهم، فلم يكونوا يُؤثرون به غيرهم، ومنهم من كان حريصًا على أن تُدفن معه تلك الآثار، كما ثبت في صحيح البخاري من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه، أنَّ الرجل الذي سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بردته إنما سألها ليجعلها كفًا له إذا مات، فذهبت بدفنه.
وكما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أعطى مُغَسِّلة ابنته زينب -رضي الله عنها- إزاره كي تضعه على جسد ابنته في قبرها.
وقد رُويَ أنَّ بعض الصحابة والتابعين الذين كانوا يمتلكون شيئًا من آثار النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنهم جعلوها معهم في قُبورهم تبركًا بها، كما رُوي عن معاوية –رضي الله عنه-، وكما رُوي عن الإمام أحمد رحمه الله.
وبعضُ آثاره، صلى الله عليه وآله وسلم، قد ثبت أنها فُقِدت، كما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر –رضي الله عنه- أن خاتم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقع من عثمان –رضي الله عنه- في بئرٍ في المدينة يُدعى (أريس).
أيضًا نقلت كتب التاريخ، الاختلاف الكبير في مصدر البردة والقضيب، أما مصيرهما، فمنهم من قال إنها فُقدتِ بدفنها مع معاوية –رضي الله عنه-، ومنهم من قال إنها من ضمن ما أحرقه التتار في بغداد سنة 656هـ، وأنها تلطخت بدم الخليفة العباسي المقتدر حينما داسه المغول بأحذيتهم حتى مات من الرفس، وأخذ هولاكو البردة والقضيب وأحرقهما وذر رمادهما، كما نقل ذلك السيوطي في كتابه كتاب تاريخ الخلفاء، والبغدادي في خزانة الأدب، والقرماني في تاريخ الدول. وكذلك نقلت كتب التاريخ ضياع (نعلين) يُقال أنهما للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في فتنة تيمورلنك سنة 803 هـ.
ولذلك علق العلامة والمؤرخ (أحمد تيمور باشا) في كتابه (الآثار النبوية) على ما يُوجد من آثار نبوية في (اسطنبول) بقوله: (لم نر أحدًا من الثقات ذكرها بإثبات أو نفي، فالله سبحانه أعلم بها، وبعضها لا يسعنا أن نكتم ما يخامر النفس فيها من الريب، ويتنازعها من الشكوك). وعلق أيضًا على موضوع الشعرات المنسُوبة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: أنه من الصعوبة معرفة الصحيح منها من الزائف!
ويقول خبير الآثار العالمي الشهير أ. د. عفيف البهنسي: إنه تمت دراسة الآثار التي يقال إنها نبوية في متاحف اسطنبول والنتيجة أنه لا يُمكن إثبات أي شيء منها تاريخيًا، حتى ما يُنسب للصحابة الكرام، وغاية الأمر أن النادر منها يُمكن أن يرقى زمنياً للقرن الأول، دون أن يوجد أي إثبات أثري وتاريخي أنها لفلان من الناس دون غيره.
¥