وقال المحدث الألباني، وهو المعروف بتبحره في علم الحديث: (ونحن نعلم أن آثار النبي صلى الله عليه وآله وسلم من ثياب، أو شعر، أو فضلات: قد فقدت، وليس بإمكان أحد إثبات وجود شيء منها على وجه القطع واليقين).
ومما أدلة ذلك ما يُزعم أنه أثر قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بعض البلدان الإسلامية، حيث قام العلامة المؤرخ (أحمد تيمور باشا) بالمقابلة بين تلك الآثار، ووجدها سبعة أحجار، لا يشبه أحدها الآخر، لا في الصورة أو المقدار أو الحجم!!
وهذا واقع يدركه الباحث المنصف، خلافًا لما ذكره أخي (زهير) حين قرر أنَّ الآثار النبوية الشريفة اليوم هي حقائق لا يمكن للأيام والسنين محوها، وأنَّ المسلمين حفظوها في قلوبهم وأرواحهم .. إلخ. وهو كلام غير علمي.
وقد اختلف العلماء والمؤرخون في تعيين مكان ولادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولا تُوجد أدلة صحيحة يمكن التعويل عليها في إثبات ذلك. فقد قال المؤرخ (أبو سالم العياشي) في (الرحلة العياشية): (والعجب أنهم عيّنوا محلاً من الدار مقدار مضجع، وقالوا له: موضع ولادته صلى الله عليه وآله وسلم، ويبعد عندي كل البعد تعيين ذلك من طريق صحيح أو ضعيف).
وقال المؤرخ (حمد الجاسر): (هذا الاختلاف في الموضع الذي ولد فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، يحمل على القول بأن الجزم بأنه الموضع المعروف عند عامة الناس باسم المولد، لا يقوم على أساس تاريخي صحيح).
واختلاف العلماء في موضعٍ مثل هذا، يدل دلالة قطعيَّة على عدم اهتمام الصحابة والتابعين بتلك المواضع، وإلا لو كانت محل زيارة وعناية لما خفيَّ الموضع ألبتة.
ومما يدل دلالة برهانيَّة: ما ثبت في الصحيحين، عن طارق بن عبدالله، أنه قال: (انطلقتُ حاجًا، فمررتُ بقوم يصلون. قلتُ: ما هذا المسجد؟ قالوا: هذه الشجرة حيث بايع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيعة الرضوان. فأتيتُ سعيد بن المسيب فأخبرته. فقال سعيد: حدثني أبي، أنه كان فيمن بايع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تحت الشجر، قال: فلما خرجنا من العام المقبل أنسيناها فلم نقدر عليها. فقال سعيد: إن أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم لم يعلموها، وعلمتموها أنتم! فأنتم أعلم؟!).
وكما ثبت في صحيح البخاري عن عبدالله بن عمر أنه قال: (رجعنا العام المقبل فما اجتمع منا اثنان على الشجرة التي بايعنا تحتها! كانت رحمة من الله).
فهذا يدل دلالة واضحة جدًا أن هذا الموضع مع أهميته العالية، ومناسبته الشريفة جدًا، ومع كونه في طريق حجهم وعمرتهم، ومع كونهم شهدوا الموضع وهم أعدادٌ غفيرة، إلا أن جمهور الصحابة لم يعرف الموضع، واختلط عليهم، فإذا كان ذلك في مثل هذا الموضع الشهير ولهؤلاء: فكيف بغيره من المواضع ولغيرهم؟
قال الإمام النووي الشافعي: (قال العلماء: سبب خفائها؛ أن لا يُفتن الناس بها، لما جرى تحتها من الخير ونزول الرضوان والسكينة).
ومع ذلك، فإنه لما نسبَ بعضهم مكاناً للشجرة، وأخذوا يأتونها للتبرك، وبلغ ذلك الفاروق رضي الله عنه: أمر بقطع تلك الشجرة، قطعًا وحسمًا لأي موضعٍ أو مادة تُفضي إلى الشرك.
وكمثال واقعي على تخبط العوام اليوم وعدم الاعتداد بما يُشتهر عندهم: أنه تُتداول صورة مشتهرة يُزعم أنها صورة قبر النبي صلى الله عليه وسلم من داخل الحجرة، ويعلّقها وينشرها كثيرون مصدقين ما قيل لهم، ويعتزون بها، وهي في الواقع صورة قبر جلال الدين الرومي الصوفي في قونية بتركيا! لكن العوام -بل حتى بعض الخواص- لا يتثبتون كما أمر الشرع! ورسخ عندهم أنها من الحقائق على تعبير الأخ المكرم زهير!
ثالثا: وهنا نأتي لما احتج به الأخ الفاضل (زهير)، فنقول: أما ما احتج به من فعل عبدالله بن عمر –رضي الله عنه- الذي كان يتتبع مواضع وأماكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلا يصح الاحتجاج به، لأنه كان يفعل ذلك متابعة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وليس تبركًا بتلك الأماكن التي لم يقصدها النبي صلى الله عليه وآله وسلم لذاتها أو لبركة فيها، بل من غير قصد. وقد اشتهر عبدالله بن عمر بحرصه على متابعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في كل شيء، فلم يكن يفعلها طلبًا للبركة في تلك الأماكن، بل كان يفعل ذلك لشدة حرصه على متابعة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
¥