والسبكي يدافع عنه بقوله: "لم يثبت عندي إلى الآن من حال أبي حيان ما يوجب الوقيعة فيه، ووقفت على كثير من كلامه، فلم أجد فيه إلا ما يدل على أنه كان قوي النفس، مزدرياً لأهل عصره، ولا يوجب هذا القدر أن يُنال منه هذا النيل. وسئل الوالد –رحمه الله- عنه فأجاب بقريب مما أقول.
وقد أرجع السبكي حملة الذهبي على أبي حيان إلى محاكاته لما قاله ابن فارس، وإلى ما قاله ابن الجوزي، وإلى أمر ثالث هو بغضه الشديد للمتصوفة.
ولقد كان أبو حيان صوفياً، بل إنه عند الفرس علمٌ من أعلام المتصوفة، قال عنه أبو العباس أحمد زَركوب: "إنه الإمام الموحد، العالم الواسع العلم، ليس له شبيه في المكاشفات الإلهية والدراية بالتوحيد".
ومن الميسور أن أُبطل هذه التهمة الجائرة بعدة ردود:
1 - المفهوم من كلام ابن فارس أن الصاحب ابن عباد طلبه ليقتله ففر منه، ثم تعقبه الوزير المهلبي، فاستتر منه حتى مات في الاستتار.
وهذا كلام تعوزه الصحة، لأن أبا حيان –كما تبين في صلته بابن عباد- تركه سنة 370هـ، والوزير المهلبي توفي سنة 352هـ، فكيف يتفق هذا؟ لقد اتصل أبو حيان بالصاحب، ثم تركه بعد ثمانية عشر عاماً من وفاة الوزير المهلبي الذي قيل إنه تعقبه ليقتله.
2 - لم يشر أبو حيان –على دقنه في وصف الأشخاص والأحوال ولا سيما حالته- إلى أن ابن عباد فكر في قتله، وأوعز بحبسه، ولو أن شيئاً من هذا حدث لذكره، على عادته في تفصيل الأحداث، والتشنيع على ابن عباد، ووصف ما لقي من حرمان وخيبة في صلته به.
3 - يحملني على الشك فيما زعم ابن فارس من نسبة الزندقة إلى أبي حيان، ومن نسبة التفكير في قتله إلى ابن عباد أن ابن فارس كان أستاذاً لابن عباد قبل أن يلي الوزارة، وكان صديقاً له لما تولاها، وكان أستاذاً لأبي الفتح ابن العميد.
وقد هجا أبو حيان ابن عباد وابن العميد، فمن المرجح أن ابن فارس أراد أن يشوه سمعته ويثأر منه، فألصق به تهمة الزندقة، وأراد أن ينسب إلى ابن عباد الغيرة على الدين، فزعم أنه هم يقتل أبي حيان، ولكنه هرب منه.
4 - كان ابن فارس معاصراً لأبي حيان، وقد ذمه أبو حيان ذماً شنيعاً، وتنقصه في مجلس ابن سعدان بقوله: "إنه شيخ فيه محاسن ومساوئ، إلا أن الرجحان لما يُذم به، لا لما يحمد عليه، فمن ذلك أنه له خبرة بالتصوف، وهناك أيضاً قسط من العلم بأوائل الهندسة، وتشبه بأصحاب البلاغة؛ إلا أن هذا كله مردود بالرعونة والمكر والإيهام والخسة والكذب والغيبة ... ".
5 - ابن فارس الذي يسند إليه اتهام أبي حيان بالزندقة والموت في الاستتار قد مات قبل أبي حيان، وسواء أكانت وفاة ابن فارس سنة 360 أو 369هـ أو 375هـ أو 390 أو 395هـ فإنها كانت قبل وفاة أبي حيان. فكيف يقرر وفاة شخص آخر لم يمت بعد؟
وإذا أراد أحد أن يأخذ بشق رأيه وهو الاتهام بالزندقة، وذهب إلى أن الشق الثاني مدخول عليه، فإن اتهامه بالتحيز لابن عباد وابن العميد ما زال قائماً يقدح في طعنه أبا حيان، وموت الوزير المهلبي قبل أبي حيان يقطع ببطلان تعقبه ليقتله.
على أني لا أستبعد أن يكون خصوم أبي حيان هم الذين فعلوا ذلك، ولكنهم أسندوه لابن فارس، ليزيدوه قبولاً وثثبيتاً في نفوس سامعيه.
6 - ابن الجوزي –كما ذكر السبكي- متعصب على الصوفية، مبغض لهم، لهذا زاد من عنده قوله: "وأشدهم على الإسلام أبو حيان، لأنه مجمج، ولم يصرح" وقد وصفه ياقوت بأنه كثير التخليط، ولهذا لا يعتمد على ما تفرد به.
7 - إذا وازنا بين أبي حيان وابن الراوندي وأبي العلاء المعري لم نجد تشابها يبيح لابن الجوزي أن يجعله أشد الثلاثة ضرراً على الإسلام، أو يسلكه في عداد المعادي للإسلام.
أما ابن الراوندي فلا جدال في زندقته وكفره، لأنه زعم أن في كلام أكثم بن صيفي ماهو أحسن من بعض القرآن؛ وادعى أن القرآن غير معجز بأن المسلمين احتجوا لنبوة نبيهم بالقرآن الذي تحدى به النبي العرب، فلم يقدروا على معارضته، فيقال لهم: لو ادعى مدع لمن تقدم من الفلاسفة مثل دعواكم في القرآن فقال: الدليل على صدق بطليموس أن إقليدس ادعى أن الخلق يعجزون عن أن يأتوا بمثل كتابه لكانت نبوته ثبتت!!
¥