وأما أبو العلاء فقد اتهم بالإلحاد، لبعض آرائه التي رددها في لزومياته، ولما قيل إنه عارض القرآن بكتابه الفصول والغايات، على نسق السور والآيات، وإن كان مظلوماً في اتهامه بالمعارضة، لأن كتابه لا يشير إلى ذلك.
وأما أبو حيان فليس في كلامه ما ينبئ عن زندقة أو إلحاد.
8 - بل إن في كلام أبي حيان ما ينقض دعوى خصومه نقضاً لا يبقي ولا يذر، فقد كان يغار على الدين منذ حداثته.
ذكر رأياً لأبي سعيد البسطامي، ثم عقب عليه بقوله: "وكان شديد التهور، عظيم العجرفة، ولم أجد نكراً من أحد حضر من أصحابه ومن غير أصحابه، وكنت حينئذ غريباً حديث السن فوقدتني الحمية لله ورسوله عند جهله".
وقد نقل تدليل أبي سليمان المنطقي على صحة البعث، وزاد على أدلته.
وذكر في أحد أسئلته لابن مسكويه حيرته في معرفة حقيقة ما سأل عنه، وقال: إن هذا يدل على توحيد من هو محيط بهذه الغوامض والحقائق، ويبعث على عبادة من هو عالم بهذه السرائر والدقائق.
وفي مقدمة البصائر والذخائر دعاء مؤمن متصوف، وفيه بعد ذلك إقرار صادق بجلال القرآن وإعجازه: "كتاب الله عز وجل الذي حارت العقول الناصعة في رصفه، وكلت الألسن البارعة عن وصفه، لأنه المُطْمِعُ بظاهره في نفسه، والممتنع في باطنه بنفسه، والدني بإفهامه إياك إليك، والعالي بأسرار غيوبه عليك، لا يطار بحواشيه، ولا يملُّ من تلاوته، ولا يُحسُّ بإخلاق جدته، كما قال علي بن أبي طالب عليه السلام: ظاهره أنيق، وباطنه عميق، ظاهره حكم، وباطنه علم".
وفيه تمجيد لأحاديث الرسول كقوله: "فإنها الشَرَكُ الواضح، والنجم اللائح، والقائد الناصح، والعلم المنصوب، والأمَم المقصود، والغاية في البيان، والنهاية في البرهان، والمفزع عند الخصام، والقدوة لجميع الأنام" وفيه بعد هذا تصوف وحض على الثقة في الله وحده.
وفي مقدمة كتابه (الإشارات الإلهية) قوله:
"اللهم إنا نسألك ما يُسأل، لا عن ثقة ببياض وجوهنا عندك، وأفعالنا معك، وسوالف إحساننا قبلك، ولكن عن ثقة بكرمك الفائض، وطمعاً في رحمتك الواسعة، نعم وعن توحيد لا يشوبه إشراك، ومعرفة لا يخالطها إنكار، وإن كانت أعمارنا قاصرة عن غايات حقائق التوحيد والمعرفة، نسألك ألا ترد علينا هذه الثقة بك، فتشمت بنا من لم يكن له هذه الوسيلة إليك، يا حافظ الأسرار، ويا مسبل الأستار، ويا واهب الأعمار، ويا منشئ الأخبار، ويا مولج الليل في النهار، ويا مصافي الأخيار، ويا مداري الأشرار، ويا منقذ الأبرار من النار والعار، عد علينا بصفحك عن زلاتنا، وأنعشنا عند تتابع صرعاتنا، وحطة حالنا معك في اختلاف سكراتنا، وصحواتنا، وكن لنا وإن لم نكن لأنفسنا، لأنك أولى بنا. وإذا خفنا منك فأبرح خوفنا برجائنا فيك، وإذا غلب علينا يأسنا منك فتلفَّه بأمل فيك.
ثم يقول بعد بضع صفحات: "حرام على قلب استنار بنور الله أن يفكر في غير عظمة الله، حرام على لسان تعود ذكر الله أن يذكر غير الله، حرام على نفس طهرت من أدناس الدنيا أن تدنس بشيء من مخالفة، حرام على عين نظرت إلى مملكة الله أن تحدق إلى غير الله، حرام على كبد ابتلَّت بالثقة بالله أن تظمأ إلى غير الله، حرام على من لم ير الخير إلا من الله أن يُجدد طمعاً في غير الله، حرام على من تلذذ بمناجاة الله أن يناجي غير الله، حرام على من وقع في فقه الله أن يعبد غير الله".
9 - وفي سلوكه ما يكفي لنقض هذا الاتهام، لأنه كان يصلي بالمسجد، ويشكو أنه لا يرى بجواره إلا قصاباً أو ندّافاً الخ، وقد حج سنة 354هـ، ولأنه كان متصوفاً طول حياته، ثم منقطعاً للتصوف في أخريات حياته، إذ قضى سنواته الأخيرة بين الصوفية، وانطبع بطابعهم، ومات بينهم، ودفن بجوار علم من أعلامهم.
ولم يكن تدينه ليخفى على معاصريه، ولهذا يقول ياقوت إنه كان يَتَألَّه والناس على ثقة من دينه".
أما صوفيته: فلا شك فيها. فقد وصفه ياقوت بأنه شيخ في الصوفية، وبأنه صوفي السمت والهيئة، وعلل السبكي تحامل الذهبي عليه بأن أبا حيان صوفي والذهبي يبغض المتصوفة، ووصفه أبو العباس أحمد زركوب بأنه إمام في المتصوفة لا نظير له، .. ثم إن أبا حيان نفسه يحدثنا بأنه حج في رفقة من إخوانه المتصوفة سنة 354هـ، ويصف ما احتملوا في عودتهم إلى بغداد من مشقات جسام كادت تودي بهم.
¥